ملاحظات على وعظة-إساءة غبطة الكاردينال مار لويس ساكو (ج1)
الزمان: مساء الثلاثاء 20 تشرين الاول 2020
المكان: المذبح المقدس لكابيلا البطريركية الكلدانية – بغداد العراق
المناسبة: القداس الالهي اليومي
الحضورالمشارك في اقامة القداس: غبطة البطريرك الكاردينال مار لويس ساكو بطريرك الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية، وساعده اصحاب النيافة الاساقفة واكليروس البطريركية وبمشاركة الاخوات الراهبات.
الا ان البث المباشر للقداس على السوشيال ميديا جعله ليس محصورا بجغرافيا ومساحة الكابيلا بل واسعا ومن دون حدود جغرافية فمتابعي القداس قد يكونوا من اية دولة، مدينة، قرية، منزل عبر العالم.
كما ان البث المباشر على النت يجعل متابعة القداس غير محصور بابناء الكنيسة الكلدانية بل متاح لجميع الراغبين بالمشاهدة والحضور ايا كان انتماءهم الديني او الكنسي.
جزئية موضوع النقاش: وعظة غبطة البطريرك
1- بداية وبملاحظة اعلاه فاننا نتحدث عن مناسبة واحتفاء متصف بالقدسية والروحانية من حيث اننا في مذبح مقدس نصلي خاشعين امام جسد الرب وتقديمه ذبيحة الهية مستذكرين تدبيره الخلاصي لاجلنا،
ومن حيث ان تقديم الذبيحة يقوم بها رئيس الكنيسة الكلدانية مرتديا ثيابه الكهنوتية الطقسية بكل مدلولاتها ورمزيتها، ويشارك معه في تقديم الذبيحة اكليروس ومؤمنون عبر العالم، ينفصلون جميعا في تفاعلهم ومشاركتهم في القداس عن العالم المادي ويعيشوا مع الرب يسوع المسيح الحاضر معهم في القداس ويتاملون في تدبيره الرباني..
فبذلك ليست المناسبة جلسة دردشة مسائية على فنجان قهوة حيث يكون الحديث ذو شجون وقد ينزلق عن المسار شكلا او مضمونا..
وليست طاولة حوار مستديرة.. وليست قاعة مؤتمرات..
انها لحظات العيش مع الرب وتسليم الذوات والانفس اليه بتضرع وتواضع وخشوع.
وهذا ما تعكسه الصلوات الطقسية للقربان المقدس في مختلف رتبه واقسامه بدءا بالصلوات الاستهلالية قبل واثناء بداية القداس وانتهاء بالصلوات والبركات الختامية.
انها باختصار: ذبيحة الهية.
2- من هنا فانه كما اباء الكنيسة وملافنتها وبارشاد الروح القدس وضعوا ورتبوا هيكلية طقس القربان المقدس وصلواته لتعكس قدسية القربان وروحانيته، وكما وضعوا صلوات القداس لتنقل قلوب وافكار المؤمنين المشاركين الى الاعالي، فان القائمين بتقديم الذبيحة، في هذه الحال غبطة البطريرك، يفترض بهم انتقاء واختيار كلماتهم لتعكس هذه القدسية والروحانية وليخرج المؤمنون بعد المشاركة في الذبيحة وهم متغيرون ومختلفون بالنقاوة والطهارة الروحية والسلام الداخلي والمجتمعي والمحبة عما كانوا عليه قبلها. كيف لا وهم اولاد الله الذي عاشوه والتقوه في القداس.
من هنا كانت كلمات غبطته صادمة وهو على المذبح المقدس امام القربان المقدس وفي وعظة يفترض ان تكون ارشادية للمؤمنين المشاركين عن قرب او بعد في القداس ليصدمهم باستهزاء بنصوص كتابية مقدسة من النبي اشعيا وهو الذي اعلن الرب على لسانه اكثر النبوءات عن التدبير الرباني للسيد المسيح.
اني ما زلت اتساءل مع نفسي في هل ان غبطته بعد هذا الكلام المسيء الى الكتاب المقدس (ليس في الكلمات فحسب بل وبلغة الجسد وحركاتها وملامحها) اكمل بقية القداس بتفاعل وتعايش روحاني؟
وهل الحاضرون والمتابعون للقداس بات بمقدورهم التفاعل مع بقية القداس بعد سماعهم الاساءة الى الكتاب المقدس والكنيسة (كل كنيسة) وبانها حديقة حيوانات؟
3- هل في كلام غبطته اساءة؟
رغم انه لا يختلف اثنان في ان كلام غبطته كان اساءة واضحة، الا انه ومع اصراره في توضيح البطريركية الصادر في 22 تشرين الاول وفي وعظة القداس في يوم 23 تشرين الاول على ان كلامه لم يتضمن اساءة فاننا نقتبس كلام غبطته حرفيا في وعظته في قداس الثلاثاء 20 تشرين الاول، ونقتبسه حرفيا وباللهجة التي تحدث فيها حيث قال:
( كلو هل خيال عربات وأجنحة بالسما وملائكة، ست اجنحة تغطي وجّْمْ وتغطي اسْفَلمْ وتغطي ماعرف إيش. شنو نحنا بالحديقة مال حيوانات). انتهى
بالعربية الفصحى: (كل هذا الخيال، عربات وأجنحة بالسماء وملائكة، ست اجنحة تغطي وجههم وتغطي اسفلهم وتغطي لا اعرف ماذا.. ماذا، هل نحن في حديقة حيوانات؟)
وهي اشارة الى النص الكتابي المقدس من سفر اشعيا النبي، الاصحاح السادس:
(1. فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا الْمَلِكِ، رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ عَال وَمُرْتَفِعٍ، وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ. 2. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ، بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. 3. وَهذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ.)
الإساءة واضحة وليست تأويلا غير سليم لكلام او اخراج له عن سياقه.
دعونا نكون صريحين ونحترم العقول والمشاعر ولا نتذاكى على بعضنا.
فان كان هذا الكلام من غبطته ومن على المذبح المقدس وامام الذبيحة الالهية المقدسة ليس استهزاء واساءة الى النص الكتابي النبوي المقدس، أتساءل: كيف تكون الاساءة اذن؟
4- لمن توجهت الاساءة؟
اذا كان غبطته اورد اسم كنيسة المشرق الاشورية في معرض اساءته، مما جعل المساحة الاكبر في ردود الافعال من تعليقات وتعقيبات على اساءة غبطته تأتي من ابناء كنيسة المشرق وان معظمها تعاملت مع الاساءة كما لو انها موجهة حصرا الى كنيسة المشرق،
فانه في حقيقة الامر ان الاساءة من غبطته لم تكن إلى كنيسة المشرق بالدرجة الاولى.
حقيقة الامر أنها اساءة للمسيحية كلها من خلال الاساءة للكتاب المقدس.
ف”حديقة الحيوانات” التي اوردها غبطته في كلامه ليست من الهام او كلمات ملافنة كنيسة المشرق مار نسطوريوس او مار تيودوروس او اي ملفان كنسي اخر لكنيسة المشرق او اية كنيسة اخرى ارثوذكسية كانت ام كاثوليكية.
انها كلمات الله الذي اوحى بها لنبيه اشعيا كما اوردناها اعلاه.
وهي اساءة الى القربان المقدس من حيث مشهدية الكلام، زمانا ومكانا، حيث جاءت الاساءة امام المذبح المحتضن للذبيحة والقربان المقدس.
وهي اساءة للكنيسة المقدسة (كل كنيسة) من خلال تشبيهها وباسلوب استهزائي بحديقة الحيوانات.
ولكنها اساءة الى الكنيسة الكلدانية اولا من حيث انها جاءت في خدمة قداس كلداني وعلى لسان رئيس الكنيسة الكلدانية على مذبح لكابيلا للكنيسة الكلدانية اثناء تقديم القربان بحسب طقس الكنيسة الكلدانية.
ثم تكون اساءة لبقية الكنائس (الارثوذكسية والكاثوليكية) التي جميعها تصلي هذه الايات الكتابية من اشعيا النبي، وهو من اهم الانبياء الذين اعلن الله من خلالهم تدبير الخلاص بالرب المسيح، واحدى هذه الكنائس هي كنيسة المشرق.
5- قضية رأي عام.
ومن هنا، وللملاحظات اعلاه وغيرها، من حيث قدسية القداس وجغرافية واعداد متابعيه وموقع ومكانة مترئسه من جهة، وحجم الاساءة والمستهدفون بها (الكتاب المقدس، القربان المقدس، الكنائس المقدسة) من جهة اخرى، فان القضية باتت قضية رأي عام لمسيحي العراق.
بل ربما تتجاوز جغرافيتها الكنائس العراقية، ففي نهاية المطاف الكنيسة الكلدانية هي ليست كنيسة مستقلة بل هي جزء من الكنيسة الكاثوليكية الرومانية التي يفترض ان يكون لها ما تقوله في هذه الاساءة ومدلولاتها العقائدية الايمانية ومترتباتها على الشراكات والعلاقات الكنسية مع بقية الكنائس المشرقية الارثوذكسية والكاثوليكية وبخاصة في شرقنا حيث المسيحية تواجه تحديات وجودية تتطلب معالجة الازمات الداخلية (ايا كان نوعها وجذورها التاريخية) لا زيادتها وصب الزيت على النار وتوجيه الاساءات بالجملة، بمناسبة ودونها، الى الكنائس الاخرى ارضاء لداء النرجسية وبحثا عن سلطات ارضية لم يخفها غبطته في اكثر من مناسبة ومنبر، واخرها كان حنينه واستذكاره لايام الخلافة العباسية والعثمانية وتساؤله لماذا تنزعج بقية الكنائس من ان يكون البطريرك الكلداني مرجعية لها امام الدولة العراقية.
عجبي ان يطلب غبطتكم بالامس مقبولية مرجعيتكم من قبل بقية الكنائس، وتعودون اليوم لتسيئوا الى هذه الكنائس.
ولعل مساحة تداول الاساءة وردود الفعل عليها على السوشيال ميديا دليل ملموس على انها باتت قضية راي عام.
وهنا اكرر موقفي بالادانة والاستنكار، باقسى العبارات، لجميع ردود الافعال المسيئة وغير اللائقة وغير المهذبة التي نشرها الكثيرون ضد شخص غبطته او ضد الكنيسة الكلدانية او مرجعيتها الكنيسة الكاثوليكية.
فالاساءة لا يجب مقابلتها برد فعل مسيء. والاساءة لا تبرر رد الفعل المسيء.
وكم كنت، وما زلت، اتمنى على غبطته ان يقوم بروحية مسيحانية متواضعة اولا، ومن موقع المسؤولية التي يتولاها ثانيا، الاعتذار عن اساءته وتضميد الجراح والالام التي خلفتها.
وكم كنت اتمنى على غبطته ان يستذكر الحكمة القائلة: اكبر الاخطاء هو عدم الاعتراف بالخطأ.
فغبطته بمحاولته انكار الاساءة وتغطيتها وتحوير البوصلة والرمي بالقنابل الدخانية للتعتيم على الاساءة الواضحة للكتاب المقدس وتشبيه نصه النبوي واستحضارات النص في الطقوس الكنسية المقدسة لجميع الكنائس بانه حديقة الحيوانات انما يكون يكرر الخطا، فكل إنكار وكل إصرار على الخطا هو تكرار له.
الإعتذار يوقف الجرح بينما الإنكار والتبرير يعمقه.
الإعتذار ليس هو انكسار بل هو انتصار.
الإعتذار ثقافة ومسؤولية وحكمة وشجاعة.
واني أراهن على ثقافة ومسؤولية وحكمة وشجاعة غبطته.
ولكني اعترف ان المؤشرات تقول اني ساخسر الرهان وهذا آخر ما اتمناه.
للمقال تتمة غداً
الخوري عمانوئيل يوخنا
نوهدرا 24 تشرين الاول 2020