الآشورية والمسيحية
1 – المدخل :
قد يوحي اسم الموضوع بأنه ذو طابع تاريخي بحت حول اهتداء الآشوريين إلى المسيحية وتاريخهم في ظلها منذ ألفي عام. والحقيقة فان الموضوع ليس كذلك، فتاريخ الآشوريين بعد المسيحية موضوع تناوله المؤرخون والباحثون المختصون وأشبعوه تمحيصا، ورغم أننا نرى الحاجة إلى إعادة تناول وتحليل التاريخ الآشوري المسيحي، إلا أن موضوعنا ورغم عرضه بإيجاز مقتضب لبعض جوانب ذلك، فانه مخصص بالأساس -وكمحاولة أولية- لتناول مفهوم الآشورية كمصطلح يعبر عن نهج والتزام فكري قومي آشوري من جهة وبين المسيحية كعقيدة إيمانية وديانة حقة من جهة أخرى، ومدى تلاقي أو حيادية أو تعارض هذين المفهومين مع بعض..
2 – لماذا هذا الموضوع؟
هناك مجمل أسباب دفعتنا للاهتمام بهذا الموضوع، يأتي في مقدمتها:
أولا : ازدياد واتساع رقعة التعامل مع المسيحية كنظرية وممارسة حياتية تتجاوز الحدود الطقسية والوظيفية الكنسية لتشمل بالتالي البحث عن إجابة مسيحية لمجمل قضايا تتعلق بالإنسان كذات مفردة أو الأمة كمجموعة إنسانية.. مثلما باتت هذه الإجابة غير مقتصرة على الاكليروس الكنسي فقط بل والمؤمنين عامة..
وإذا كان هذا هو شأن المسيحية كعقيدة وجوهر وتاريخ وممارسة فان ذلك قد يبدو جديدا على الساحة الآشورية، اقله في التاريخ المعاصر والواقع القائم..
ثانيا : تجاوز حدود التعامل مع القضية القومية الآشورية من تعامل عفوي لا يتجاوز في أقصى مدياته حدود استذكار التاريخ القومي المشرف أو تداول مصطلحات سياسية مكررة، ولتبلغ إلى بداية تبلور الآشورية كمفهوم ونظرة سياسية شاملة للواقع الآشوري وتصوراته المستقبلية..
وإذا كانت، وللحقيقة التاريخية، هذه البداية قد انطلقت وبدأت بالتبلور -في الوطن- منذ حوالي عشرين عاما في أوساط المثقفين والطلبة الجامعيين الآشوريين، فانه وبحكم عدة عوامل ذاتية وموضوعية ما تزال محدودة الانتشار ولم تبلغ الإنسان الآشوري عامة الذي ما زال أسير العفوية والعاطفة في تعامله مع قضيته القومية..
ثالثا : تعدد مراكز صنع القرار الآشوري والتداخل أو المنافسة بينها والتي تصل أحيانا حدود الصراع الضيق الغير المشروع. وبين هذه المراكز من هي سياسية حزبية ومنها دينية كنسية ومنها مواقف أو توجهات فكرية غير منظمة.
وفي عموم هذه المراكز هناك افتقار واضح أو قصور فكري في استيعاب مجمل الأمور المتعلقة بالواقع القومي وتحديدا ما يحتاج منها إلى إدراك عميق واستيعاب واع لحركة التاريخ القومي والعوامل المؤثرة فيها.. فكثيرا ما نرى أن مراكز القرار تتخذ موقفها بناء على نظرة سطحية لما هو قائم في الواقع القومي دون العودة إلى جذوره وأسبابه وعوامل استمراره.. وفي الأحيان النادرة التي تتم العودة فيها إلى التاريخ القريب والمعاصر لفهم الواقع المعاش وظواهره فانه يتم اعتماد تحليلات وقراءات للتاريخ الآشوري قام بها أناس أو توجهات قاصرة أو غير حريصة في تعاملها مع الشعب الآشوري وطموحاته الإنسانية..
هذا إضافة إلى المحاولات والطموحات المستمرة من هذا المركز أو ذاك للاستئثار والتفرد والهيمنة على القرار الآشوري وتوجيهه وجهة محددة دون أخرى مع الانغلاق وعدم التفاعل الإيجابي فيما بينها، بكل ما تجلبه هذه النزعة التسلطية والتفردية من خلافات وصراعات تأتي بنتائج سلبية وخطيرة على مسيرة شعبنا..
رابعا : ظهور بعض المواقف والاتجاهات الفكرية الخطيرة تجاه المسيحية من بعض ((القوميين)) و ((المثقفين)) الآشوريين، تجاوزت حدود المواقف النقدية المخلصة والمشروعة للإدارات الكنسية ولتبلغ حد التشكيك بالعقائد والركائز الإيمانية المسيحية أو اتهام الكنيسة المشرقية بانها كانت ولا تزال السبب الأكبر في التخلف القومي، والى غير ذلك من نتاجات العقم الفكري والثقافي، والتي قد تبلغ -ما لم يتم معالجتها- حد تجاوز العلمانية والتزام الإلحادية..
3 – عرض تاريخي :
يعود انتماء الآشوريين للمسيحية واهتدائهم إليها في القرن الأول ومع بدايات المسيحية في الشرق.. وهناك عدة أسباب وراء هذا التفاعل والتزاوج الإيجابي والمبكر للآشوريين مع المسيحية.. منها :
أولا : الخلفية الحضارية والثقافية والفكرية للآشوريين.. فرغم أن الكيان السياسي الآشوري قد انتهى مع سقوط آخر عواصمه بابل في 539 ق. م. -مع استثناء الإمارات الصغيرة في الرها وغيرها-، إلا انهم كوجود حضاري وثقافي بقوا اعتمادا على ارثهم الغني في شتى المجالات.. وهكذا، فان شعبا كالشعب الآشوري قد تربى في محيط حضاري وإنساني فانه ليس بالغريب عليه أن يفهم ويقبل المبادئ المسيحية الإنسانية التي وجد فيها متنفسا لروحه المتطلعة دوما إلى الذرى.. إن التعاليم المسيحية الإنسانية والسامية لم تتعارض مع الأرضية الحضارية والإنسانية للإنسان الآشوري..
ثانيا : لم يكن الآشوريون غرباء عن النبوات بالمسيا المنتظر، حيث عاش في وسطانيهم اليهود المسبيين بل وبعض أنبياء العهد القديم.. لذا كانوا على إطلاع بهذه النبوات -ليس المقصود هنا بأنهم كانوا بانتظار المسيا-، هذا إضافة إلى أن الآشوريين هم من أول المهتدين -ما عدا الشعب اليهودي- وبتدبير رباني إلى الإله الواحد الأحد دون الشعوب الوثنية قبل المسيح.. فدعوة يونان النبي وكرازته في نينوى هي من أتولى الدعوات الأممية إلى الإله الواحد الخالق..
ثالثا : لقد وجد الآشوريون في الدين الجديد الفرصة التاريخية لهم لإثبات وجودهم على الساحة، من خلال تبني نشره والتبشير به.. وباختصار نقول أن الصليب لبى طموح الآشوريين للعودة كشعب مؤثر وحي بعد أن كان السيف الآشوري قد انتهى دوره.. ولنتساءل ماذا قدم الآشوريون للمسيحية وماذا قدمت المسيحية لهم؟
وان كانت الإجابة على شقي السؤال جلية، إلا أننا سنجيب باقتضاب واختصار..
لقد قدم الآشوريون للمسيحية الكثير، وعطاءهم يشمل الجوانب التالية:
1 – الجوانب الفكرية : المسيحية كديانة (جديدة) تؤمن باله واحد خالق السماء والأرض كان لابد وان تتصادم مع الديانات الوثنية القائمة حينها والمترسخة بين شعوب المنطقة فكرا والتزاما وتاريخا وممارسة.. فكان لابد للمسيحية والحالة هذه ولكونها لم تعتمد يوما أسلوبا غير الإقناع وسلاحا غير الإيمان من حجج منطقية وبراهين دامغة للمحاججة واثبات عقائدها الإيمانية.. وهذا كان دور الآباء الأوائل للكنيسة المشرقية حين انبروا لهذه المهمة معتمدين على الهام الروح القدس..
2 – نشر المسيحية : لقد حمل الآشوريون صليب المسيحية وخلاصها ليبشروا بها إلى أقاصي آسيا مرشدين بالروح القدس.. وليس من جديد نقوله في هذا المجال كونه معروفا لدى القاصي والداني، ويكفينا أن نشير إلى وصول المسيحية على أيدي المبشرين الآشوريين إلى الصين ومنغوليا وغيرها.. والشواهد الأثرية تنطق بذلك، حتى بات تاريخ المسيحية في آسيا مقرونا بالشعب الآشوري..
3 – السلوكية المسيحية : فالمسيحية ليست نظرية تسمو على الواقع الحياتي ومعطياته وتفاصيله، فلا بد لملتزميها إذن من ممارسات وسلوك حياتي يشهد على مسيحيتهم.. وهذا ما فعله آباؤنا المؤمنين وما زلنا نشعر به من خلال الانطباع الإيجابي عن سلوكهم المسيحي في محيطهم الغير الآشوري والغير المسيحي.. هذه السلوكية التي هي بحق التجسيد الواقعي والممارسة اليومية الحياتية للمبادئ الإنجيلية..
أما المسيحية فماذا قدمت للآشوريين؟
1 – لقد أغنت المسيحية بتعاليمها السمحاء وقيمها الإنسانية السامية الوجود والثقافة والحضارة الآشورية.
2 – إن المسيحية كديانة أممية لا تفرض على المؤمنين بها لغة محددة دون غيرها، باتت الفرصة التاريخية وربما الوحيدة للآشوريين للحفاظ على لغتهم القومية.. وهنا لابد للتاريخ الآشوري أن يسجل باعتزاز الموقف التاريخي للكنيسة الأولى في الرها إذ تبنت السريانية كلغة رسمية للكنيسة وطقوسها وآدابها… هذا القرار الذي باعتقادنا لولاه لما كان اليوم لغة سريانية بكل ما يعنيه ذلك من نتائج..
3 – إن المسيحية كديانة غير مقولبة في قوالب طقسية جامدة محددة أتاحت لأدباء اشور ومفكريها مجالا رحبا لتوسيع وتطوير لغتهم وآدابها حتى باتت لغة العلم والحضارة والمؤلفات والتراجم في شتى المواضيع.. ونظرة واحدة إلى المكتبة الآشورية المسيحية تلقي الضوء ساطعا على هذه الحقيقة..
4 – المسيحية أضافت للآشوريين رابطة قومية مضافة لما كان يربطهم كأمة واحدة. فما افتقر إليه الآشوريين بعد سقوط بابل قد تعوض بالمسيحية. وأهمية هذه النقطة تجسدت في التاريخ حين تحول قسم من الآشوريين عن المسيحية. ماذا كان مصيرهم القومي؟ مثلما تتجسد أهميتها اليوم ونشعر بها كلما عشنا في وسط غير مسيحي.
4- ما هي الآشورية؟ وما هي المسيحية؟
عودة إلى الموضوع.. فالمقصود بالآشورية هو الفكر القومي الآشوري الذي يسعى من خلال التنظير والممارسة إلى تحقيق الطموحات المشروعة للآشوريين كأمة حية إنسانية.. فالآشوريون كشعب امتلك حق الحياة وله خصوصياته القومية التي تميزه عن الشعوب المحيطة به، لابد وان يكون له طموحاته وآماله المشروعة التي تصب في التوجهات الإنسانية وحقوق شعوب المعمورة.. وحيث أن الآشوريين قد عانوا ولقرون عديدة وما زالوا من الاضطهاد والقسر والظلم، الأمر الذي أدى ليس إلى عدم ممارستهم لحقوقهم المشروعة فحسب بل وتجاوز ذلك إلى تهديدهم في وجودهم التاريخي والقومي..
من هنا امتلك الآشوريون حقا مضاعفا للعمل والنضال لإزالة المظالم القائمة ضدهم والسعي لتحقيق أهدافهم. ولما كان هذا العمل والنضال ممارسة حياتية يومية منظمة فانه لابد وان يسترشد بفكر نظري وبرامج عملية تترجم هذا التنظير إلى واقع متجسد.
هذه النظرية وهذه الممارسات المسترشدة بها وهي ما نسميها بالآشورية.. وبكون التخلف الناتج عن ظروف ذاتية وموضوعية مختلفة هو تخلف شامل في مجمل حياة الإنسان والأمة الآشورية.. من هنا فان العمل والنضال القومي هو عملية ثورة شاملة في مجمل مجالات الحياة.. وبمعنى آخر فانه ليس عملا إصلاحيا في مجال دون غيره.. وحيث أن المسيحية كعقيدة والممارسات والالتزامات المسترشدة بها، وبحكم ألفي سنة، هي متأصلة ومؤثرة في الذات الآشورية، فان (الآشورية) لابد وان تتعامل مع المسيحية وتحدد المواقف منها بوضوح لا لبس فيه…
أي بمعنى انه لا يمكن للفكر القومي الآشوري أن يكون شاملا لمجمل جوانب الواقع الآشوري ما لم يتضمن موقفا من المسيحية كعقيدة وديانة وانتماء عام لكل الآشوريين.. وبديهي أن هذا الموقف يكون بالضرورة مرشدا وهاديا للتعامل مع الكنائس المسيحية القائمة في المجتمع الآشوري..
وشأنه شأن أي موقف آخر فأنه لابد وأن يستند على الفهم العميق والواعي للمسيحية وتاريخ اشور المسيحية..
ولنسأل الآن ما هي المسيحية؟
قد يبدو سؤالا غريبا لكون الآشوريين المعاصرين جميعا مسيحيين اقله في الانتماء الديني..
المسيحية أيها الأحبة هي طريق الخلاص الذي حدده ربنا وخالقنا..
فالخليقة خلقت بدافع من نعمة ومحبة الخالق الذي لم يكن مضطرا لخلقنا.. وإذ خلقنا بدافع محبته اللامتناهية فقد خلقنا كاملين لا يعوزنا شئ.. إلا انه خلقنا أحرارا أيضا.. والحرية هي من الكمال…
وإذ اخطأ الإنسان الأول بممارسة حريته وسقط رغم تحذيره من نتائج السقوط.. تدخلت محبة الخالق ثانية لتخلص الإنسان الساقط والخاطئ.. وحيث أن الخطيئة دخلت بإنسان.. فكان لابد من غفرانها بواسطة إنسان.. ولكن أي إنسان يستطيع ذلك؟.. ليس ممكنا إلا للإله القدوس.. فكان التجسد.. الإله المتجسد.. ابن الله وابن الإنسان يسوع المسيح له المجد..
إذن المسيحية بأهدافها هي غير أرضية، بل تهدف إلى إعادة الإنسان إلى حالة النعمة والكمال في النعيم الإلهي.. إلا أنها وان كانت غير أرضية الأهداف فإنها أرضية الممارسة، وهذا شئ بديهي.. فالإنسان يعيش على الأرض وان كان يسمو إلى السماء.. فلابد للمسيحية أن تحدد سلوكا إنسانيا معينا ما دام المسيحي عائشا على الأرض وبين اخوته بني البشر.. وهكذا حددت المسيحية أساسا ساميا لهذا السلوك يمكن اختصاره بأنه إذا كنت أنا الإنسان الخاطئ اطمع بمحبة الخالق ورحمته فانه لابد لي من محبة خليقته.. لا يمكن الادعاء بمحبة واحترام الخالق إذا كان هناك بغض وازدراء لخليقته..
إذن المسيحية واضحة.. فهي ترتكز أولا على مبدأ تبرر الإنسان الخاطئ بدم المسيح.. وهي تمتحن محبة الإنسان لخالقه بمدى محبته لاخوته بني البشر…
5- هل من تناقض بين الآشورية والمسيحية؟
مما سبق يبان جليا أن لا تناقض بين الآشورية والمسيحية، مثلما لا تناقض بين أي فكر قومي إنساني وبين المسيحية.
بل ويمكن القول وبيقين أن هناك توافقا بالأهداف والممارسات (الأرضية) بين الآشورية كفكر قومي إنساني وبين المسيحية ومنطلقاتها ودستورها الحياتي.. إن أسمى ما تنادي وتدعو وتبشر به الأيديولوجيات القومية وتنظيماتها لا يمكن إلا أن يكون صدى، بصيغة أو بأخرى، لما نادى به الإنجيل الطاهر والرسل المباركين.. ففي المحبة، هل هناك أسمى من :
((ليس هناك حب اعظم من أن يبذل الإنسان نفسه من اجل من يحب)).. وفي الاتحاد : ((ولكنني اطلب إليكم أن تقولوا جميعا قولا واحدا ولا يكون بينكم انشقاق)).. وفي العمل والاجتهاد : ((إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضا)).. وفي الشجاعة : ((لا تخافوا الذين يقتلون الجسد)).. وفي التضحية : ((مغبوط هو العطاء اكثر من الأخذ))… وغيرها الكثير من الآيات الكتابية.. والحديث يطول إذا أردنا تناول مجمل الفضائل التي تربي عليها المسيحية أتباعها…
إلا أننا نسأل سؤالين فقط.. من أعطى للشهادة والشهداء قيمة سامية إن لم تكن المسيحية؟ وهل بلغت الأيديولوجيات الوضعية، القومية منها والأممية، في تحديد أهدافها، ما بلغته المسيحية يوم ولادة المسيح حيث رنم الملائكة ترنيمتهم الخالدة ذو الثلاثة أبعاد :
((المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر..))؟؟.. إذن، أليست المسيحية متوافقة مع الفكر الآشوري الإنساني الغير الشوفيني؟
وأليس المسيحي المؤمن مثالا ونموذجا للإنسان الآشوري المنشود؟. أما اتهام المسيحية بان قيمها ومبادئها السمحاء زعزعت الوجود القومي الآشوري أو وصف المسيحية لتسامحها بانها فكر جبان. فانه اتهام مردود وباطل.
فإضافة لما سبق ذكره عن إضافات المسيحية للوجود الحضاري والثقافي الآشوري وتوافقها مع أعماق الإنسان الآشوري ودورها في وحدة الأمة ونهضتها الفكرية والثقافية، فإننا نقول : بان التاريخ المشرف لشهداء وقديسي المسيحية والكنيسة المشرقية هو شهادة اقرها الغرباء قبل الأقرباء بمدى الاستهانة بالموت والاستعداد الدائم له في سبيل الحق والإيمان.. وبذلك بقيوا رموزا خالدة للشجاعة والإقدام والتضحية.. وهذه ليست نتاجات (جبن) وإنما وبحق هي نتاج إيمان واع واستعداد للتضحية من اجله..
إن الشجاعة لا تعني ممارسة الظلم، فالشجاعة الحقة هي القدرة على المحبة الإنسانية، وقد تدفق نبعها الفياض يوم طعن المسيح على الصليب…
ولنتساءل : من غير المسيحية يشكل النبراس الذي أهدى وارشد لوائح حقوق الإنسان والدساتير المتقدمة؟؟ فكيف تكون المسيحية تناقضا مع الفكر والطموح الآشوري أو زعزعة للوجود الآشوري… إلا إذا كان هذا الوجود هشا أو قائما على الأحقاد الشوفينية والتعصب الأعمى، ابعد الله شرورها عنا ونزهنا منها..
وأضيف ختاما لهذه الفقرة : هل كان وجود الإنسان عبر التاريخ وجودا ماديا فقط أم ماديا وروحيا؟ إن السعي الأزلي للإنسان في بحثه عن الحقيقة الإلهية المطلقة، هذا السعي الذي ارتدى قبل المسيحية أشكالا عدة، يؤكد إن الإنسان دوما هو وجود مادي وروحاني.. وحيث أن المسيحية تمثل القمة، كونها الحقيقة الأوحد فيما يخص الحياة والوجود الروحي للإنسان وبعثه وقيامته وخلوده. من هنا فالمسيحية هي رافد ونبع لابد وان يرتوي منه أي إنسان وأي مجتمع متى ما سعى للحياة الأفضل، فكم بالأحرى انساننا وشعبنا الآشوري الذي ارتوى واغتنى من المسيحية على مدى ألفي عام.
6 – القوميون الآشوريون والكنيسة :
قبل تناول هذا الجانب، نشير باقتضاب شديد إلى الانشقاقات الكنسية الكبرى بين الآشوريين.. فأولها يعود إلى القرن الخامس الميلادي وتحديدا اثر مجمع افسس 431م حيث انقسم الانتماء الكنسي المذهبي للآشوريين إلى كنيستين أو مذهبين سميا بالنساطرة واليعاقبة (رغم تحفظنا على هاتين التسميتين، إلا أننا أوردناهما لشيوعهما). والانشقاق الثاني يعود إلى اكثر من 200 عام بقليل عندما انشطر النساطرة إلى قسمين : النساطرة (من بقيوا على مذهبهم الأول) والكلدان الذين التزموا الكثلكة.
بديهي أن هذه الانشقاقات أثرت وما تزال تؤثر سلبا على الوحدة القومية الآشورية، إذ أفرزت الآشوريين إلى مذاهب مختلفة بل ومتصارعة في العديد من الفترات والمراحل.. ولكن، وللحقيقة التاريخية نقول: أن هذه الانقسامات لم تكن تجد لها موقع قدم في ارض الواقع ما لم يكن هناك أرضية لها.. ذلك أن الشعب الآشوري وبحكم اتساع الرقعة الجغرافية لتواجده وخضوعه لتأثيرات خارجية متباينة (سياسية وثقافية) إضافة إلى ظرفه الذاتي، قد وفر واقعا -لا أقول سعى- الأرضية لهذه الانشقاقات.. وهذا ما نجده جليا في الانقسام الأول حيث تحددت حدوده الجغرافية بصورة عامة بحدود الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية.. كما نجده واضحا في الانشقاق الثاني وان بصورة مختلفة كأن نطلق عليها ريفية ومدنية..
وهذا أمر بديهي، فالكنيسة، كمؤسسة، وإداراتها ليست إلا وليدة واقع الرعية تنعكس وتؤثر فيها معطيات هذا الواقع وحركته.. يضاف إلى ذلك، وهذا أيضا للحقيقة التاريخية المطلقة، أن الصراعات القائمة في المنطقة أبان الانشقاقات الكنسية لم تكن صراعات قومية بل دينية ومذهبية وعشائرية.. وكتحصيل حاصل لذلك فان تحميل المسيحية والكنيسة المسؤولية المطلقة للانشقاق القومي هو أمر مبالغ فيه.. فالكنيسة قد أثرت في الشقاق القومي مثلما اثر الواقع القومي في الشقاق الكنسي، وهذه بديهية تاريخية كون الكنيسة ورجالاتها وليدة الشعب وليست طارئا خارجيا مفروضا عليه..
وبالعودة لسياق الموضوع، نتساءل : هل يمكن للآشوريين أن يكونوا إلا مسيحيين؟ مما سبق ذكره نقول بثقة إن الآشوريين كانوا بالأمس وهم اليوم وسيبقون أبدا آشوريين مسيحيين طالما أرادوا حفظ وجودهم وتحقيق طموحهم.. من هنا فان القوميين الآشوريين لابد وان يكونوا مسيحيين مؤمنين.. وهذا يعني أن على التنظيمات والمثقفين والمفكرين الآشوريين :
1 – تجاوز الحياد في الانتماء الديني.. وليس المقصود هنا أن تكون التنظيمات الآشورية دينية مسيحية.. بل وان تحدد موقفها من المسيحية كدين وعقيدة إيمانية ومن مسيحية الآشوريين بما يتوافق مع ما لهذين الجانبين من علاقة لا انفصام فيها.. فهل يمكن تجاوز حقيقة المسيحية كعقيدة حقة ربانية؟ وهل يمكن إلغاء ألفي عام من تاريخ اشور المسيحية؟ فالدعوة للإلحاد دعوة مشبوهة ومنبوذة وتجاوز لحقائق التاريخ وتعكس العقم الفكري والعمى السياسي لمروجيها بل وتضع علامات استفهام حول حقيقة ارتباطاتهم.. مثلما هو اتهام المسيحية بالجبن عنف ثوري في غير محله يعكس قصور فكر حامليه..
2 – احترام الموروث الكنسي المتمثل بإدارات وقوانين وطقوس الكنائس وعدم التدخل في ذلك لتحقيق مكاسب وغايات معينة، بل يجب أن تدرك القيادات والشخصيات القومية حدودها في هذا المجال.. مثلما يجب على القيادات الروحانية عدم التدخل في شؤون التنظيمات السياسية.. فلكل واجبه ومسؤولياته، ولا تناقض أو صراع بينهما بل هناك التوافق والالتقاء.. إن هذه النقطة يجدر أن تقود إلى إقامة علاقات محبة واحترام بين هذه القيادات، بل والى التفاعل الإيجابي فيما بينهما لما هو المصلحة العامة ونشاط المؤسسات الكنسية والتنظيمات الجماهيرية..
3 – الوقوف حياديا إزاء المذاهب المسيحية القائمة بين الآشوريين وعدم إضفاء الطابع المذهبي على العمل القومي، أو إضفاء طابع سياسي محدد على مذهب معين.. ويجدر بهذا الحياد أن يكون إيجابيا بمعنى تشجيع المبادرات الوحدوية والتقارب بين الكنائس قيادات وقواعدا..
4 – تشجيع الشبيبة الآشورية المثقفة للارتواء من نبع الثقافة والتراث الكنسي بمختلف جوانبه، بل وتشجيع الشبيبة المثقفة على الانخراط في الكهنوت مع مراعاة عدم تحزيبه حيث يجب بقاءه مستقلا..
5 – تثقيف القواعد الحزبية ومراقبة انضباطهم والتزامهم الفكري تجاه المسيحية، وممارساتهم تجاه الكنيسة ورجالاتها. فبث التهم والتشهير مهما أثمر من مكاسب ضيقة وانية فانه سيؤدي حتما إلى انحسار جماهيرية هذه التنظيمات وفقدانها لمصداقيتها عاجلا أم آجلا.. خاصة وان التنظيمات لم ولن تكون محكمة ربانية أو كنسية.
6 – التركيز في الإصدارات والمناهج التثقيفية على دور المسيحية والكنائس المشرقية في الحفاظ على وجودنا القومي، وهذه مهمة يتطلب إنجازها العلمية والموضوعية في الطرح والتحليل وتنقية هذا الجانب مما أصابه من تشويه ومغالطات.. ولعل أهم ما نفتقر إليه في هذا الجانب هو قراءة وتحليل تاريخنا بفكر آشوري علمي وعدم الاعتماد على التحليلات المطروحة على أنها حقائق مطلقة..
أما ما هو مطلوب من الكنائس وقياداتها، فيمكن القول بالنقاط الآتية:
1 – تجاوز روحية الصراعات المذهبية، ليس لمصلحة الأمة الآشورية فحسب، بل لمصلحة المسيحية ذاتها والتزاما بمنطلقاتها كما وردت في الإنجيل الطاهر، والانفتاح والتقارب القائم على الاحترام والمحبة المتبادلة في مختلف المجالات وبرامج العمل.
2 – تجاوز الطموحات الاوليجاركية في قيادة الأمة، والانصراف إلى الأمور الكنسية وإصلاحها وتطويرها بما يجعل الكنيسة متواكبة مع الواقع الحياتي المعاصر وبما يؤهلها لتقديم المعالجات لأزمات الإنسان كذات مفردة والأمة كمجموع..
3 – عدم إضفاء الطابع القومي الآشوري على كنيسة محددة وتصويرها على أنها الكنيسة القومية الرائدة، بكل ما يعنيه ذلك من تناقض مع جوهر المسيحية أولا، ومع إيمان الكنائس ذاتها وكما اقره مجمع نيقية 325م (قبل الانشقاقات) بالإيمان بكنيسة جامعة أي غير قومية ثانيا، ومع تاريخ وواقع رعية هذه الكنائس في كونها غير مقصورة على الآشوريين ثالثا، إضافة إلى ما يخلق هذا الاتجاه من ردود أفعال سلبية على الوحدة القومية حيث يصير المذهب حاجزا ويصبح الانتماء الآشوري معه تهديدا وهميا للانتماء المذهبي..
4 – تكثيف برامج التثقيف المسيحي والسلوك الحياتي للإنسان المسيحي الحق..
5 – تكثيف الإمكانات وتوجيهها في نشر التراث الثقافي والفكري للكنائس المسيحية المشرقية دون الدخول في المواضيع اللاهوتية البحتة..
6 – تنشيط دور الشبيبة في النشاطات الكنسية ومنح الدرجات الكهنوتية للشبيبة المثقفة والواعية والمنزهة من الصراعات المذهبية والالتزامات العشائرية والمصالح والطموحات الشخصية..
7 – إن عدم تسييس الكنائس وأنشطتها ليس مبررا لسكوتها عن قول الحق تجاه المظالم والاضطهادات التي ترتكب بحقها وبحق أبناءها من تدمير وتشريد وقمع، وذلك انطلاقا من الوصايا الكتابية في قول الحقيقة دون مهابة من الظلم والظالمين.. لا بل السكوت عن قول الحق إنما هو في دوافعه موقف سياسي سالب تقفه الكنيسة كونه يعني في حقيقته رضى على ممارسة المظالم.. كما لا يعفي الكنائس حياديتها السياسية من مسؤولياتها في فضح مخطط تشويه الحقائق التاريخية، كون الكنيسة ورسالتها وتاريخها أولى ضحاياه…
وختاما : فان محاولات القوى المعادية للطموحات الإنسانية لشعبنا الآشوري كالتدخل في الشؤون الكنسية الداخلية وخلق وتعميق الشقاقات الطائفية والمذهبية لاشغال الإنسان الآشوري في صراعات ثانوية وإبعاده عن أداء دوره القومي والوطني والإنساني هو دليل قاطع لما للكنائس المسيحية من تأثير في حركة المجتمع الآشوري.. فكم بالحري يكون تأثيرها إيجابيا في بناء وتطوير هذا المجتمع.. وكم بالحري يفرض ذلك التزامات بعاتق القوى والتنظيمات والمثقفين الآشوريين تجاه كنائسهم وبما يحفظ استقلالية هذه الكنائس ويدعمها لأداء دورها في البناء الروحي والأخلاقي والاجتماعي للإنسان والأمة..
الاب عمانوئيل يوخنا
نوهدرا – دهوك 1992