لماذا اكتب؟ ولمن لا اكتب؟
قبل عدة سنوات، حين قررت التوقف عن الكتابة، سالني بعض الاصدقاء عن السبب. اجبتهم اني التزمت ولاكثر من عقد من الكتابة في المنابر الاعلامية المفتوحة ان اكون صريحا صادقا مع نفسي ومع القراء ومع شعبي، وان ما دفعني للكتابة كان دائما مصلحة شعبي اولا واخيرا حيث لا طموحات شخصية سياسية او غيرها لي، لاني وفي عموم مجالات حياتي (العائلية، الكنسية، المهنية وغيرها) قد حققت وبلغت ما يجعلني في سلام مع نفسي ومقتنعا وبكل تواضع باني قد اعطيت ما يمكنني اعطاءه.
وفي مجمل كتاباتي كان يمكن للقارئ المحايد ان يستنتج اني ابشر وادعو للامل والمستقبل الذي يمكن بناءه على حقائق الواقع القومي والوطني وامكاناتنا وفرصنا، مواطن ضعفنا وقوتنا، وغيرها دون ان انجرف يوما الى بازار ومزايدات الاوهام، بل على العكس تماما كنت، وسابقى، مقاتلا شرسا ضد الاوهام والمروجين لها على حساب شعبي ومستقبله.
وقد دفعت الكثير من الاثمان وتعرضت لاشرس واقذر الهجمات ضد شخصي وعائلتي، بل وحياتي حيث كنت هدفا لمحاولة اغتيال ما زالت الاسئلة عمن يقف وراءها مفتوحة، بسبب صراحتي ومكاشفتي مع شعبي ورفضي المزايدات والاوهام.
وكنت اكمل الاجابة بالقول باني قررت التوقف عن الكتابة لاني اذا كتبت فاول مقالاتي سيكون: (شعبي يحتضر) وهذا ما لا اريده لاني كنت دائما مبشرا بالامل.
بعدها بسنوات كرر الاصدقاء السؤال بالقول: اما زلت مصرا على عدم الكتابة؟ فاجبت نعم وهذه المرة لو قررت الكتابة فان اول مقالاتي سيكون: (شعبي ينتحر) وهذا بناء على ما بدات اتلمسه من حينها من وقائع وحقائق على الارض في الوطن من جهة وسوق المزايدات القومية المهجرية من جهة اخرى.
فتوقفت كليا.
والان وقد بلغ الانتحار الجماعي مداه فاني منذ عدة اشهر قررت العودة للكتابة بذات المبدا: الصراحة والشفافية ورفض بيع الاوهام.
ولكن مع فارق كبير عن ذي قبل.
فحينها وقبل حوالي العقدين كنت، كما اخرون غيري، نكتب ونحاور ونناقش على اساس استثمار الفرص لبناء المستقبل. كنا نكتب بغاية اننا من موقع السلطة الرابعة (اذا جاز لنا اعتبارها ذلك) يمكن ان نساهم في تقويم الاداء السياسي والمؤسساتي لشعبنا وتعزيز فرص المستقبل.
اما اليوم وقد اتخذ شعبنا قراره الجمعي بالانتحار الجماعي ونال هذا القرار مباركة مؤسساتنا القومية والتي في الحقيقة هي من دفعت شعبنا بالاساس الى هذا القرار، فانني اعود للكتابة لا من اجل التغيير (فهذا يأست منه) بل من اجل التوثيق وللتاريخ ليس إلا.
بمعنى انه عندما يصدر الشعب شهادة وفاته ويصبح شعبا من الماضي فان من يقرأ تاريخه وتفاصيل عقوده الاخيرة ما قبل الانتحار سيجد ان كل الشعب لم يكن راغبا في الانتحار الجماعي بل كان هناك من انتبه ونبه الى ذلك.
لذلك عدت واعود للكتابة للتاريخ وتثبيت المواقف وليس للتغيير.
لا ادري ان كان بقية الزملاء من الكتاب ما زالوا مقتنعين بامكانية ان تساهم كتاباتهم في التغيير. فان كانوا ما زالوا، فاني اتمنى ان يكونوا هم الصائبين وانا المخطئ.
منذ بداية التسعينيات ربت وغذت قيادات شعبنا السياسية الفوبيا وروجت للاوهام والمزايدات والبطولات الدونكيشوتية والامكانات الخيالية (في واقعها صفرية) من اجل منافع شخصية وحزبية انية وقصيرة المدى.
ولكنها لم تنتبه ان جرو الفوبيا والاوهام الذي ربته واطعمته بات ديناصورا لا يشبع الا بالتهام وجودنا ومستقبلنا.
ما رباه بعضنا جروا ينقاد وراءهم ويسيطرون عليه بات اليوم وحشا لا يمكن السيطرة عليه فهو من يقود وهم من ينقاد.
ما روج له بعضنا من خطاب فوبيوي للكسب المعنوي والمادي والسياسي بات اليوم خطابا عارما خارج عن السيطرة ولا مفر امام من روج له سوى الانقياد والخضوع.
وبذات المسار والغايات روج بعضنا لخطابات التخوين فامتلا قاموسنا القومي بمصطلحات اقل ما يقال عنها انها من فضلات وزبالة الخطاب العروبي، مصطلحات مثل الخونة، المنبطحين، العملاء، المتسولين، بائعي الذات، الممثل الوحيد، القائد الشريف، بالروح بالدم، التسمية القطارية، والى اخره من مصطلحات اقل ما يقال عنها انها لا تؤسس للحوار والتفاعل.
وذات الامر في الخطاب السياسي الموجه للاخر فباتت شعاراتنا المهجرية المغذاة بالاساس من الوطن تنكر الواقع والوقائع والحقائق وتعيش الاوهام وعالم السايبر حتى نستحق وبامتياز ان نضيف اسما اخر لنا، ربما هو الاكثر تطابقا مع حالنا، باننا Cyber Nation
في عالم السايبر بدانا نزايد في الشعارات مثل: اشور المحتلة، دولة اشور الكبرى. وتفننا في رسم الخرائط لاشور الجديدة ولم نكد نطلع على المعروض منها بمقاييسه (Small Assyria وMedium Assyria وLarge Assyria) حتى ظهر لنا مؤخرا XXL Assyria التي تضم كل العراق وسوريا وجنوب تركيا وشمال ايران (لاحظ الخريطة ادناه). وتوزيع الالقاب الكبرى مثل رئيس اركان الجيش الاشوري Assyrian army commander in chief.
وبات “قادتنا” في الوطن يتنافسون ويلهثون في كسب رضا ودعم شعب السايبر وشوارع واذاعات المهجر في مقابلات ومزايدات تذكرني باهازيج لقاءات الدكتاتوريات العربية في المهرجانات الخطابية والاذاعات الهتافية كاذاعة صوت العرب ومذيعها احمد سعيد. وباتوا يزيدون من الفوبيا والعداء للاخر وبازدواجية وانتقائية مفضوحة ودون خجل.
وفي عالم السايبر بدأ بعضنا يفضح رخصه وانحداره الاخلاقي من خلال حجم الاساءات والاهانات للاخر من قيادات وشعوب واوطان. فكوردستان التي ساهم احد “قياديينا” في وضع دستورها واقرار علمها وصياغة اليمين الدستورية لاعضاء برلمانها ووزراءها (وكان من اوائلهم) باتت اليوم لدى مناصريه المهجريين وبعد الفوبيا التي اطعمها على مدى ربع قرن باتت: كرستان، قردستان، وغيرها من “الابداعات” المقززة للخطاب السياسي المهجري الاشوري في كرنفالات الانتحار الجماعي.
شعبنا يحصد اليوم ما زرعه بالامس بعضنا.
انها الشعبوية باكثر اشكالها تدميرا لوجود ومستقبل وفرص الشعب في الحياة.
المهجر، هذه الجغرافيا العالمية التي التجانا اليها اضطرارا ام اختيارا، فالنتيجة سيان، تحول الى مركز ثقل وجودنا وقضيتنا.
المهجر الذي فشل فشلا تاما وبالكامل في تعزيز اية فرصة حياة فردية او جمعية لشعبنا في الوطن سواء سياسيا ام اقتصاديا ام مؤسساتيا ام اكاديميا ام خدماتيا، بات هو قبلة سياسيينا في الوطن.
المهجر الذي يمارس المغناطيس لهجرة شعبنا من الوطن بات الخزان الشعبي والانتخابي لاحزابنا في الوطن.
المهجر الذي غذينا الفوبيا الموجودة فيه اصلا جعلناه هو من يحدد اطار وسقف خطابنا السياسي القومي والوطني.
المهجر حيث ذابت فيه الفواصل بين القومي والوطني بات المطبخ السياسي لرسم خرائط الشرق الاوسط واعادة تسميتها وترسيمها على الفيسبوك الاشوري والتجمعات التي غالبا ما تنتهي على موائد العرق والويسكي ومنتديات القمار.
اشوريو ايران وطورعبدين المهاجرين الى اميركا واستراليا واسكندنافيا واوربا نصبوا انفسهم اوصياء على القوش وبرور وعنكاوة وتللسقف وغيرها ويقرروا عنها وهم لا يعرفوا حتى جغرافيتها، ناهيك عن ديموغرافيتها.
كاتب هذا المقال هو احد من اضطرته ظروفه للهجرة الى المانيا.
نحترم ونفهم ونتفهم كل من دعته ظروفه الى قرار الهجرة والاغتراب. ونحترم اكثر المتميزين اشخاصا ومؤسسات في مهجرنا.
ولكن بذات المقدار واكثر يجب ان نحترم شعبنا الذي قرر البقاء والعيش في الوطن.
بل ويجب علينا جميعا ترجمة هذا الاحترام الى دعم عملي على الارض وليس بالمزايدات والوصاية والشعاراتية.
اذا كانت السيفو وسميل والانفال والبعث وداعش فتكوا بنا فان اكثر من يفتك بنا اليوم هو مهجرنا وبشراكة وارشاد من بعض “قادتنا” في الوطن. كل ذلك هروبا من الفشل وتغطية له وهروبا من تانيب الضمير واراحة له.
المهجر هو داعش الذي خلقناه وربيناه لينهش جسدنا ويفتك بنا.
لا ينكر اي عاقل او عادل او حكيم ان ظروف معيشتنا في الوطن ليست كما نريد.
ان كانت الاكثرية التي نتشارك معها تعترف بان معيشتها وواقعها ليست كما تريد، فكم بالاحرى نحن وبقية الاقليات.
لم يقل احد اننا في فردوس، بل هل هناك اساسا فردوس في الشرق الاوسط وشمال افريقيا قاطبة.
ولكننا ايضا لسنا في جحيم كما يصور ديناصور الفوبيا.
وبين الجحيم والفردوس هناك الوقائع والحقائق على الارض التي يجب ان نتعامل معها بحكمة وصراحة ومسؤولية وموضوعية لنبني عليها.
الرفض من اجل الرفض.. والرفض دون البديل.. والرفض نكاية او كرها للاخر.. كلها جزء من الانتحار الجماعي.
لمن لا اكتب؟
كما قلت فاني اكتب للتاريخ ولتكون شهادة ان كل الشعب الاشوري لم يكن راغبا بالانتحار الجماعي، بل وكان هناك بينه من انتبه ونبه وحذر من هذا الانتحار.
ولكن هناك ايضا مجموعة لا اكتب لها، ليس بمعنى انه ممنوع عليها قراءة ما اكتب.
كلا، فما اكتبه انشره على المنابر المفتوحة لقراءة كل من يرغب.
ولكني لا اكتب لهم بمعنى اني لا احاورهم.
وهم فئات قد تختلف في مواقفها ولكنها تلتقي جميعها في انها جزء من قرار الانتحار الجماعي والياته.
من بين هؤلاء الذين لا اكتب لهم:
• الغير المؤمنين بوحدة شعبنا بتعددية اسماءه. ليس عندي مساحة مشتركة للحوار مع من لا يدرك او يؤمن او يقر بان الكلدان والاشوريين والسريان هم شعب واحد باية تسمية يريد استعمالها او تربى عليها. فكل تسمياتنا التاريخية الموروثة والدارجة هي لنا ونفتخر بها.
• المصابين بالفوبيا والعداء للاخر ممن وضعوا اولوياتهم: (Anti Kurdish First) و(Anti Kurdish Second) وربما (Pro Assyrian Third) لا مشترك لي معهم، فانا اولوياتي هي (Pro Assyrian First) و(Pro Assyrian Second) و(Pro Assyrian to the end).
• المستسهلين الاساءات الى شعبي وهويته واسمه من مروجي ودعاة هرطقة آشورايا. فمن يستسهل تشويه هوية واسم شعبه لا حوار لي معه ايضا. طبعا انا ادرك ان هناك بين هؤلاء من ياخذ الامور ببساطة وبانها مسالة صغيرة وثانوية وووو. عفوا احبتي، انها ليست كذلك. يقول الكتاب المقدس: (من يكون امينا على القليل يكون امينا على الكثير). وبذات السياق نقول: من يشوه القليل سيشوه الكثير. اتمنى على هؤلاء المستسهلين الامر ان ينتبهوا الى خطورة ما هم متسامحون ومتساهلون معه.
• العائشون اوهام السايبر من ابناء الـ Cyber Nation وغير المدركين او المعترفين بحقائق الواقع الديموغرافي والسياسي القومي والوطني لشعبنا ولبقية الشعوب التي نعيش معها. فانا بدراستي الاكاديمية مهندس كهرباء، ومهندسي الكهرباء معروفين بالتزامهم المنطق والحقائق فلا مجال للاوهام والخيال في معادلات الهندسة الكهربائية.
وهكذا ومن وحي ومضمون هذا المقال ساباشر وبحسب توافر الوقت عندي بنشر مقالات متتالية لتدخل في تاريخ وارشيف شعب قرر الانتحار. وبالتاكيد سابدأ بقضايا الساعة، واتمنى ان اجد الوقت للكتابة في شان الاستفتاء كونه قضية الساعة ولكنه قضية تخص المستقبل ايضا.
طبعا لست بحاجة ان اكون نبيا لاتوقع حجم الاساءات التي ساتلقاها.
والترهيب له وسائله من ترهيب اعلامي وتخوين وغيرها مما اشرنا اليه، مرورا بالتسقيط العائلي والمؤسساتي الى الترهيب الجسدي ايضا.
وله غايته النهائية وهي الاسكات سواء اسكات الجسد او القلم.
وقد مررت وعاينت جميع هذه الاساليب منذ التسعينيات الى الامس القريب ولن يكون جديدا تكرارها.
الى اللقاء
الخوري عمانوئيل يوخنا
نوهدرا 17 ايلول 2017