Home / Recommended / Articles / ألزهد والتقوى في حياة إكليروس وأتباع الكنيسة النسطورية

ألزهد والتقوى في حياة إكليروس وأتباع الكنيسة النسطورية

ألزهد والتقوى في حياة إكليروس وأتباع الكنيسة النسطورية*
قراءة في كتاب “المسيحيون في حكاري وكردستان الشمالية”

مقال للكاتب ايفان جاني

منشور على موقع عنكاوة

تحسر المرء بشدة عندما يحاول دراسة تأريخ أبناء جلدته وكنيسته، ويتفاجيء بأن الجزء الأكبر من هذا التاريخ غير مدون و مندثر أو أمسى أسير مكتبات شخصية لايرى النور، والجزء الأخر دونته أقلام غريبة غربية. وبخصوص الأقلام الغريبة التي دونت تأريخنا، تنقسم إلى قسمين، القسم الأول يضم أولئك الذين سخروا جهوداً طيبة لإعطائنا صورة واضحة، ونقل الحقيقة دون رتوش أو تحيز، وقاموا بجمع تفاصيل وفيرة من كتب ودراسات مختلفة ليجروا في ذات الوقت مقارنة أكاديمية متميزة قل نظيرها في ماشابهها من كتب. في حين أن أصحاب القلم في القسم الثاني،  يمكن القول بأنهم وفي الكثير من المحطات قد جانبوا الحقيقة وحرفوها في محطات مهمة، وذلك لأهداف وغايات شخصية أو مخطط لها من قبل جهات داعمة.  وبسبب شحة المصادر المحلية كما أسلفنا، يجد القاريء أو الباحث نفسه مجبراً لدراسة مادونه الباحثين الأجانب من رحالة ومبشرين وغيرهم، جاهداً قدر المستطاع دراستها بشكل متأني وتحليلها تحليلاً علمياً دقيقاً، كون البعض منهم سطروا كلماتهم بدافع تشويه وتزييف الحقيقة لا أكثر.
كتاب الـ” المسيحيون في حكاري وكردستان الشمالية ” الكلدان والسريان والآشوريون والأرمن” الذي إعتمدته كأساس لقراءة ودراسة حالة الزهد والتقوى التي عاشها إكليروس وأتباع الكنيسة النسطورية “الشرقية”، للباحث الفرنسي ميشيل شفالييه، يعتبر ومن منظوري الشخصي من الكتب المهمة بالنسبة لمكتبتنا القومية والكنسية، فالباحث صرف جهداً كبيراً للخروج بهذا الكتاب الغني بتفاصيله، لاسيما المقارنات التي أجراها بين الكتب الأخرى التي كتبت عن هذه الكنيسة وأتباعها خلال فترات زمنية مختلفة، ويمكن إعتماد وإعتبار الكتاب فهرساً جيداً لمن يسعى أو يحبذ الغوص والإطلاع على تفاصيل دقيقة من حياة هذه الكنيسة وأتباعها، ومع ذلك هذا لايعني خلوه من سلبيات ونواقص وبلوغه درجة الكمال.
إعتمد ميشيل شفالييه في وصفه للحالة المعيشية التي عاشها وإستمر عليها رجال الكنيسة النسطورية” مطارنة وأساقفة وكهنة”، على مجموعة من الكتب والمقالات والتصريحات ناهيك عن دراسته الميدانية للمناطق التي سمحت له السلطات بزيارتها في العراق وتركيا.  وسنبدأ مع وصفه لظروف حياة مطران برور التي إستلها من كتاب الأب “ريتوري” الذي دون عام 1898 وفيه نقرأ ” إن المار إيشو مطران برواري بالا كان خلال فصل الصيف المناسب للنشاط الزراعي يقوم بسقي مزارع الرز بنفسه، وإني رأيته وساقية مغمورتين في الأوحال وفي يده مسحاة” ]ميشيل شفالييه، 2010، ص140 [.
ويضيف الباحث، أن مطران برواري كان يقيم في ضيعة صغيرة تقع على بعد من قرية “دوري”، مسكن هذا المطران كان عبارة عن مبنى شيد في مدخل كهف جبلي. وإلى جانب مقر إقامة المطران كان هناك بناء من الحجارة طليت جدرانه بالكلس الأبيض المعروف بـ” جص مار قيوما”، منظر المبنى يجعلك تحس أنك أمام صومعة راهب متوحد أكثر من أن يكون مبنى مخصصاً للعبادة الجماعية، هذا بحسب كتابات “أنسورث”]شفالييه، المصدر السابق، ص149 [. ويقول بادجر: كان يوجد في صالة بيت المطران قرب وأواني من الطين المجفف بالشمس أو المشوي بالنار حفظ فيها الرز والحنطة والدهن. في الزوايا كان الزائر يشاهد بعض المعدات الزراعية البسيطة وأواني المطبخ وجفنات صغيرة خشبية فيها أنواع من منتجات الألبان]شفالييه، المصدر السابق، ص150 [.
أما مطران شمدينان فكان يسكن أحد الأديرة القديمة الواقعة ضمن أرض مسورة، عدا الدير كان هناك كنيسة مبنية على إسم “مار إيشو” مع حضيرة للمواشي.  وفي كتابات لايارد 1850م، وماك لين 1892م، نقرأ عما يؤكد بساطة سكنى مطران شمدينان، ويعتبر الكاتبان ذلك النوع من الحياة علامة مميزة لحياة هذا الحبر]شفالييه، المصدر السابق ص149 [.
وفيما يخص الكهنة، فقد كتب عنهم شفالييه مايلي: منظر الكاهن لم يكن يختلف عن منظر أي مؤمن إعتيادي إلا بالعمامة المعتمة المكونة من قلنسوة ملفوف عليها قماش أسود يضعها الكاهن على رأسه وباللحية الطويلة المسترسلة. والكهنة عند النساطرة متزوجون، الكاهن يتمتع عادة ببعض المعونة البسيطة من الإدارة الكنسية، ويقوم بالإضافة إلى مهامه الدينية بدور القاضي المحلي. عدا ذلك يقوم الكاهن بالأعمال الإعتيادية كباقي أبناء الشعب، كأعمال الزراعة ورعي الماشية خلال فصل الإصطياف، أو العمل كأجير يومي أو يمارس إحدى الحرف كبائع متجول]شفالييه، المصدر السابق، ص152 [.
وعن تصرفاتهم يخبرنا شفالييه:” لايختلف كهنة ومطارنة النساطرة عن المؤمنين العلمانيين من حيث المظهر والتصرف، إنهم يركبون الجياد ويقاتلون كباقي أبناء الشعب”]شفالييه، المصدر السابق، ص270 [.
التقوى والبساطة سر إحترام الأحبار:
تبين لنا في أعلاه أن حياة  الأساقفة والكهنة التي جاء على ذكرهم شفالييه، كانت حياة جد عادية كحياة أي مؤمن من مؤمني الكنيسة، وهذه البساطة في الحياة لم تكن يوماً نقطة ضعف بالنسبة للإكليروس بل بالعكس كانت بمثابة عامل قوة وسبب إحترام الشعب  لهم. فها هو شفالييه وغيرهم من المبشرين والرحالة يقرون بذلك حرفياً بقولهم:” كان للدرجة الكنسية التي يحملها المطران أو الأسقف إحترام وتقدير تام من قبل المسيحيين أبناء الجبال بغض النظر عن عمره أي سواء كان شاباً يافعاً أو كهلاً كلله الشيب، وقبل كتابات “ووركوث” بحوالي نصف قرن، كانت هناك كتابات آنسورث وبادجر، عند قراءتها نلمس شعوراً وتأثراً لما شاهداه من إحترام وتقدير تؤديه الجماهير للمطران الشيخ “مار إيشو”. عن ذلك يذكران أنهما شاهدا الجماهير تتراكض وتتدافع للمثول بين يدي هذا الحبر الجليل. وكيف أنهم كانوا يتسابقون لمشاهدته عندما كان يزور القرى، وأحياناً كانت الجماهير توقف موكبه وتجبره على التوقف والنزول ودخول قراهم فيقبلون يده ويحظون ببركته الأبوية]شفالييه، المصدر السابق، ص151 [. وتأكيداً على حالة التقوى هذه يكتب شفالييه مانصه:” في منطقة التخوما كوايي” الداخلية” ، التي هي المركز لعشيرة تخوما، كان الحماس على العبادة أشده، إذ كان الإكليروس يُشاهد وهو يُصلي طوال الليل في الكنيسة”]شفالييه، المصدر السابق، ص156 [.
وبكلمات قليلة لكن ذي معنى عميق يصور لنا شفالييه الإحترام الذي كان يحضى به الكهنة فيكتب:” ترى أبناء الشعب النساطرة يقبلون يد الكاهن بكل خشوع وتواضع، وعدا ذلك كان الكهنة يتمتعون بأشكال أخرى من التقدير والإحترام”]شفالييه، المصدر السابق، ص155-156[.

شعب الكهنة: 
جاء على لسان شفالييه أن العديد من الرحالين والمؤلفين الذين كتبوا عن مسيحيي حكاري الجبليين، أكدوا وجود كهنة كثيرين بين جماهير النساطرة. أحياناً كان عدد الكهنة في قرية ما عدة عشرات من الكهنة. بحسب بعض الكتابات، كان هناك كاهن في كل عائلة، لذا نعتت تلك الكتابات النساطرة بـ” شعب الكهنة”. وهنا يوثق شفالييه كلامه بإحصائيات دونها كُتاب سبقوه في هذا المنحى فيكتب، إن ماجاء في الإحصائيات المختلفة والشاملة، وبإستثناء تلك الخاصة بالمناطق المحيطة بالأبرشية البطريركية، هي أرقام معقولة، وبحسب تلك الإحصائيات وللفترة المحصورة مابين (1850-1914)، فالعدد المحدد كان يتراوح مابين المائتين والثلاثمائة كاهن لجماهير يتراوح عددها مابين السبعين والمائة ألف نسمة تنتشر مواقع سكناهم في الأراضي التركية والفارسية ]شفالييه، المصدر السابق، ص152[ وبخصوص الكنائس، يعتمد شفالييه على الإحصائية التي جاءت في كتابات “كتس” ويقول:” كانت مباني الكنائس عند النساطرة في حكاري والمناطق المحيطة بها كثيرة، وعددها يتراوح مابين 250-300 كنيسة، كل هذه الكنائس أصبحت اليوم خرائب وأطلال أو مباني قديمة مهجورة”]شفالييه، المصدر السابق، ص157[ . وعن أهمية الكنيسة في حياة المجتمع المسيحي النسطوري ينقل لنا شفالييه صورة من واقع عايشه ويكرام ودونه في كتاباته بالشكل التالي:” إن أبناء قرية “راباط” الواقعة في منطقة “الطال” قاموا جميعاً بالمشاركة في العمل لبناء الكنيسة، ونظراً لعدم توفر الخشب اللازم في القرية، لذا وبسبب الحاجة الماسة لحرق الخشب وبكميات كبيرة في عملية تحضير الجص(الكلس)، قام أبناء القرية ومن دون أي تردد بقطع أشجار الجوز الجميلة والزاهية في المناطق المحيطة بالقرية والبعيدة نوعاً ما وجلبوها لحرقها في كور الجص. كذلك إنهم قد ضحوا بكل كميات زيت الجوز المخزونة والمحفوظة لأيام الصوم الكبير (الخمسيني)، فوهبوها للكنيسة للإستفادة منها”.

الحياة الروحية لدى النساطرة:
إتصفت جماهير النساطرة بحسب شفالييه بالتقوى والعفوية الحقيقية، ويؤكد الكاتب في سياق كلامه على نقطة جوهرية وهي أن العقيدة والدين عند النساطرة مرتبطان بالشعور القومي إرتباطاً وثيقاً. ويسترسل في حديثه: إضافة إلى ذلك إمتاز مسيحيو حكاري ببقائهم مخلصين لإيمانهم بأمانة وديمومة مدهشة مقارنة بجيرانهم الأرمن الذين تأثروا وخاصة الطبقات المسحوقة منهم بالضغط المادي والثقافي الأوربي. ويتفق شفالييه مع الأب ” ريتوري” في تصريحاته التي تفند الأقاويل التي تدعي أن النساطرة يعيشون حالة ” موت روحي”، أو من نعتوهم بـ” مسيحيين بالإسم”، أو إن الحياة الروحية في مجتمعات النساطرة تمر بظاهرة مرضية بالكاد يمكن ملاحظتها. ودفاعاً عن هذا  المجتمع المسيحي الصغير المنعزل يقول ريتوري، العبادة التي يمارسها هذا الشعب”النسطوري” تشهد له بالورع والتقوى، وعندما يدخل هؤلاء المؤمنون إلى الكنيسة، يحنون رؤوسهم ويقبلون دعامات الأبواب. وقد أشاد عدد من الكتاب الآخرين بتحمس النساطرة للعبادة والصلاة حيث وصفوا هذا التحمس بالشديد لدى جماهير النساطرة وخاصة أبناء العشائر.
ويقر المبشرون بكثرة فترات الصوم عند النساطرة، أهمها وأطولها مدة صوم الخمسين، وفيه لايجوز تناول أي نوع من الطعام سواء كان صلباً أو سائلاً إلى فترة مابعد الظهر، كما إن إحتساء الخمر أيام الصوم ممنوع، وكذلك التبغ أي التدخين ممنوع أيضاً. 
وأنا أضع هذه المعلومات بين أيدي القاريء الكريم، علمانياً كان أم رجل دين، لا أبتغي فتح باب جدال بيزنطي، أو لاسامح الله التشكيك في إيمان أي إنسان، بقدر ما أتطلع إلى  تسليط بقعة ضوء على جزء يسير من تاريخ مضيء أمسى نوره يبهت يوماً بعد أخر، وتأثيراته في حياتنا اليومية تقل إن لم نقل إنها قد تلاشت. هذا في الوقت الذي نحن أحوج مانكون إلى دراسة الماضي بشكل متأني والإتعاض منه بغية وضع تخطيط سليم لبناء مستقبل واعد. كما إن جلد الذات هذه الفلسفة التي لانحملها في نفوسنا الضعيفة المتعالية مطلوبة في أيامنا وتعتبر واحدة من الأساليب التي علينا إتباعها كجزء من رد إعتبار لمن كنا السبب في تغيير وجهة مركبهم عن أو دون قصد.
وأختم كلامي ببضع تساؤولات أوجدها هذا المقال المتواضع، يجيب عليها كل واحد منا في قرارة نفسه وكل بحسب موقعه ومسؤوليته. 
1-   بعد عقود من الزمن، هل تنطبق علينا كشعب وكنيسة مانعتنا به بعض المبشرين والرحالة بأننا شعب يعيش “حالة موت روحي”، أو “مسيحيون بالإسم” فقط؟
2-   هل تسلل ضعف الإيمان الروحي والقومي إلى قلوب أبناء الطبقات التي نال منها الضغط المادي وأمست ترزح تحت وطأة الثقافات الأجنبية ؟
3-   لماذا خسرنا كشعب وكنيسة لقب “شعب الكهنة”؟
4-   إلى أي مدى نجح إكليروس كنيستنا في الحفاظ على حالة التقوى والزهد والتواضع التي كانت العلامة الفارقة في حياة أسلافهم؟

الملاحظات والمصادر:

* للأمانة العلمية أبقينا على إسم الكنيسة كما جاء في الكتاب .
إسم الكتاب الكامل:  ميشيل شفالييه، المسيحيون في حكاري وكردستان الشمالية” الكلدان والسريان والآشوريون والأرمن، ترجمة: نافع توسا، شركة الأطلس للطباعة المحدودة، بغداد، 2010.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *