المقال أدناه هو جزء مستل من تقرير مفصل عن زيارتي مع الأخ تيري بطرس الى العراق بعد تحريره من النظام الصدامي في 9 نيسان 2003
الزيارة امتدت من 18 نيسان الى 26 نيسان 2003 حيث دخلنا عبر سوريا الى فيشخابور والعودة منها كذلك.
الاخ تيري وأنا كنا اول زوار الوطن من المهجر بعد سقوط الطاغية
وشملت الزيارة دهوك، سهل نينوى، كركوك وبغداد.
ساقوم بنشر التقرير الكامل في كتاب مجموع مقالاتي.
ولكني مع العمل على انجاز الكتاب مررت على التقرير وارتأيت ان اشارك معكم هذا الجزء منه.
(معلومة عابرة نذكرها للتاريخ: في القامشلي – سوريا التقينا قيادة المنظمة الآثورية الديمقراطية وتبادلنا الحديث والنقاش في مجمل الأمور والقضايا في محاولة لاسشراق القادم.. ومن بين الامور كان طرح الاخ تيري بطرس على قيادة المنظمة للمبادرة بعقد مؤتمر قومي شامل وجامع في العراق.
وهو ما تم لاحقا، ولكن للاسف، باليات ومسار لم يلبي معها المؤتمر الطموح ولم تحقق الغايات القومية والوطنية الممكنة والمتوقعة منه.)
مشهد ودلالة
ساحة الحرية (الفردوس) – بغداد
المكان: ساحة الحرية – بغداد
الزمان: الأربعاء 23 نيسان 2003
لا يمكن لي الا تضمين المقال مشهد فيه اكثر من دلالة عن واقع العراق في ظل صدام حسين وتشوق ابناءه الى الغد. وهو مشهد مر معي في المساء الاخير لزيارتي الى بغداد حيث كان لا بد من التعريج على ساحة الحرية، وهو الاسم الجديد الذي اطلقه العراقيون بفطرة وعفوية على الساحة التي كان اسماها النظام بساحة الفردوس والتي ضمت واحدا من اكبر اصنام الدكتاتور صدام حسين والذي شكل اسقاطه يوم 9 نيسان رمزا لبدء مرحلة جديدة في تاريخ العراق والمنطقة.
وفي تسميتها بالفردوس تعبير صارخ عن عمق التناقض والانفصام بين النظام وشعبه، فالنظام الذي حول العراق الى جحيم يطلق اسم الفردوس على ساحة تضم اكبر اصنامه ليسقطه شعب العراق في اول ساعات تحرره من رهبة النظام وارهابه.
ساحة الحرية التي شهدت اسقاط صنم النظام باتت قبلة كل الصحافيين والاعلاميين وهم كم ضخم من كل زوايا المعمورة.
في اخر مساء لي في بغداد زرت ساحة الحرية ومعي الكاميرا الصورية والفيديوية، وطلبت من صديقي ان يقوم بتصوير الساحة وموقع التمثال في حين اقوم انا بالتعليق على اللقطات باللغة السريانية.
في ساحة الحرية يتواجد عدد من مصوري اللقطات الفورية ليصوروا لقطات لزوار الساحة وهم بجانب التمثال الساقط، وفي اغلب الاحيان فوقه.
بعد انتهاءي من التصوير والتعليق انتبهت الى اني محاط بعدد من الشبيبة البغدادية العراقية وهم يهتفون (Freedom Freedom) (اي الحرية الحرية) ويرفعون اصابعهم بشارات النصر والنجاح، وهم بذلك يكررون مشهد لم يجبرهم احد عليه بل مارسوه طواعية ونزاهة وقناعة، كما انهم مارسوه معي اعتقادا منهم باني صحفي من احدى زوايا المعمورة جئت لاوثق تحررهم واعلق على الصورة والحدث بلغة من مئات اللغات التي لم يسمعوها قبلا في العراق والتي علق بها اعلاميو العالم على الحدث..
لهذا المشهد دلالة كبيرة من حيث الشعور الحقيقي للمواطنين في العراق وفي ساحة الحرية تحديدا، التي باتت رمز المرحلة الجديدة، بانهم ليسوا مسجونين او معزولين عن العالم، وهو شعور يشعروه ويمارسوه لاول مرة منذ عقود اجبروا فيها على البقاء في سجن كبير اسمه العراق، وجل اتصالهم بالعالم الخارجي كان التظاهرات المبجلة للنظام والمنظمة من قبله وشعاراتها المعدة سلفا.
لاول مرة يمارس العراقيون شعورا حقيقيا بان العالم معهم وبينهم وانهم جزء من هذا العالم وانهم يرحبون به في وسطهم كصديق ومناصر لهم.
الا ان المشهد كان له دلالته الاخرى لي كعراقي اشوري ولدت وترعرعت في العراق، وتعمذت في مياهه وارتويت منها وانتهلت من مدارسه ومكتباته كما اكتسبت من تاريخه هويتي وخصوصيتي واحداها اللغة السريانية التي بها علقت على لقطات الفديو..
فقد تالمت من حقيقة ان الشبيبة البغدادية التي احاطت بي اثناء التعليق قد ظنت هذه اللغة غريبة عليها وعلى عراقها، رغم ان مكتبة العراق التاريخية والادبية قد كتب جلها بهذه اللغة التي لملافنتها مكانة كبرى في ارشيف بيث نهرين الحضاري، بدءا بافرام ونرساي ومار طيمثاوس وحنين بن اسحق وابن العبري وانتهاء بتوما اودو واوجين منا وقليتا..
صحيح ان هذه الحقيقة ليست جديدة علي، فانا ادرك كم عانى الشعب الاشوري وحضارته ولغته وادابه من التغييب والتشويه في سياسات النظام البائد وتحديدا التربوية والاعلامية منها، حيث انشا اجيالا من الطلبة ممن درسوا نصوصا ادبية لادباء من افريقيا وامريكا اللاتينية وبلاد الواق واق ولكنهم لم يقرأوا شيئا عن هوية وثقافة ولغة وحضارة يمثل العراق مهدها.
ولكن ورغم علمي بهذه الحقيقة الا انها كانت مؤلمة لدى معاينتي لها مرة اخرى بعد زوال صدام بايام.
نداءي الى العراق الجديد ان يتم معالجة هذا التغييب.
ونداءي الى القوى والمؤسسات والمرجعيات الاشورية الكلدانية السريانية ان تضع هذه النقاط على اجندتها وتوليها الاهتمام.