في العراق يكون البابا “نسطوريا”..
حادثة.. حوار.. مدلولات.. معالجات..
في اليومين الماضيين تطلبت متابعاتي للاعمال الميدانية لمنظمة (كابني) ان اقوم بزيارات ولقاءات مع مرجعيات عسكرية وامنية ومجتمعية في سهل نينوى ومدينة الموصل.. وما سياتي في هذه الكتابة القصيرة هو من وقائع هذه الزيارات..
كما العادة لهكذا لقاءات، ارتدي الملابس المعروفة للكهنة واضع الصليب. والحق يقال ان نقاط السيطرة والتفتيش، في كردستان ومناطق ادارة الحكومة المركزية، تحترم رجال الدين المسيحيين كثيرا من حيث المرور عبرها.
انطلقنا في سيارتين.. الاولى انا مع سائق المنظمة.. والثانية فيها موظفان للمنظمة..
- توقفنا في احدى سيطرات الجيش العراقي وكان فيها شاب عسكري مهندم فسالنا باحترام: هوياتكم اخوان.
- قلت له مبتسما: اي من الهويتين تريد؟ هذه (وانا اشير للصليب) ام الهوية المطبوعة؟
- اجابني: بكيفك عمي.
- قلت له: هذه الهوية (حملت الصليب) امامك وتريد اقدم لك المطبوعة.
- سأل: شنو هاي؟ (يقصد الصليب).
- قلت له: انا رجل دين.
- فاعتذر باحترام وقال: عفوا..اهلا بيكم.. تفضلوا..
فعبرنا.. لتصل السيطرة السيارة الثانية ويقودها احد موظفينا الذي يمر يوميا بهذا الطريق.
وعند توقفه في السيطرة بادر موظفنا السؤال من الشاب الذي في السيطرة: ماذا كان حديث ابونا معك؟
قال: والله ما ادري.. شوفلي قطعة حديدية وقال اني انه رجل دين فقلت له اهلا مولانا تفضل..
واستمرينا وقمنا بالزيارات الى هذه المرجعيات المختلفة وجميعها في منطقة ادارة الحكومة المركزية في سهل نينوى والموصل. وفي جميعها تلقينا كل الاحترام والتقدير من عدد غير قليل من الضباط والمنتسبين سواء عند دخولنا او حواراتنا وطلبنا بعض التسهيلات وتلبيتها او عند خروجنا.. شكرا لهم جميعا..
ولكن الملاحظ في الحوارات معنا او مع جهات اخرى عبر التلفون انهم جميعهم كانوا يدعوني في الحوار معي او يشير الي في التلفون بالـ: البابا. (باستثناء واحد منهم كان يدعوني: ابونا).
(اضافة للفرفشة: طبعا اني على كولة العراقيين ما جذبت خبر).
المدلول..
المدلول الاهم والمختصر للحادثة والحوارات اعلاه، وما شابهها معي او مع غيري من رجال الدين المسيحيين او من بقية الاديان، هو ان هناك عدم دراية شبه كاملة بالمكونات العراقية “الصغيرة”. نقطة على السطر.
المعالجات..
حيث ان هكذا دراية يتم اكتسابها من مصدرين، اولها التجربة والمشاركة الحياتية وهذه تكون طبيعية وقائمة في المناطق حيث العيش المشترك بين مختلف المكونات، وهذا تجده في كردستان والموصل وبغداد وربما اماكن اخرى.
او تكتسب هذه الدراية من خلال مناهج التربية والتعليم والمنابر الاعلامية (وبخاصة التلفزيون).
وحيث ان عدم الدراية هذه تفوق نتائجها مجرد الحوادث والحوارات العابرة اعلاه حيث لم يكن فيها اية اساءات، بل كل الاحترام، الى نتائج سلبية خاصة عندما تتجاوز عدم الدراية الى تشكيل متراكم لصورة نمطية سلبية يتم توظيفها في اجندات وممارسات بقصد (داعش والخطاب التكفيري مثالا).
فان المعالجات تعود بنا، مرة اخرى، الى ما سبق لنا الدعوة اليه وتضمينه في برامج العمل على مختلف المستويات من مراجعة مناهج التربية والتعليم والبرامج التلفزيونية والمنابر الاعلامية بما يقدم هذه المكونات بهويتها وصورتها ودورها الايجابي.
بالاضافة الى ذلك فان هناك مبادرات وطنية ومحلية يمكن اعتمادها لتحقيق هذه الغاية مثل:
- اعتماد يوم واحد لكل مكون، تحدده مرجعيات المكون، ليكون عطلة وطنية لكل العراق. فعندما موظفو وطلبة البصرة لا يذهبوا للدوام في راس السنة اليزيدية (على سبيل المثال) سيعرفوا ويتعرفوا ويعلموا ويتعلموا عن ابناء وطنهم اليزيدية. وكذا لبقية المكونات.
- اطلاق اسماء لشخصيات او غيرها من رموز كل مكون على الاحياء السكنية او المدارس او المستشفيات او الشوارع عبر العراق.. ففي حين كان كل او جل اطباء الدولة العباسية من السريان فلا يوجد مستشفى واحد باسم احدهم.. وفي حين كان ائمة الفلاسفة ومؤسسي المدارس في تاريخ العراق من المسيحيين لا يوجد مدرسة واحدة باسمهم.. وفي حين كانت كردستان حاضنة كل المقاومة الوطنية العراقية والملاذ الامن من ارهاب الدكتاتوريات فانه عبر العراق لا يوجد احياء سكنية او شوراع او مؤسسات تحمل اسماء رموز كردستانية.. وذات الشيء من حيث تسمية شوارع ومدارس في كردستان باسماء ادباء وشخصيات عراقية بدر شاكر السياب مثالا.. (هناك حالات استثنائية محدودة)، وكذلك بالنسبة لبقية المكونات..
وغيرها من المبادرات التي قد تبدو متواضعة ولكنها تنشئ دراية تراكمية بالاخر.. خاصة وانها مبادرات لا تتطلب اجراءات دستورية حيث الدستور، وللاسف، يشرعن التمييز.
اما في حالة الحادثة والحوارات التي اوردناها، يمكن تعميم تجربة نقوم بها هنا في منظمة (كابني) لتحقيق نتائج ايجابية حين استقبالنا متطوعين من اوربا والولايات المتحدة للعمل معنا في البرامج الانسانية، حيث اعددنا منهاج خاص ودورة تتضمن تعريفا وارشادات ثقافية واجتماعية بما يمكن القيام به او ارتداءه او الحديث عنه وبما لا يمكن وغيرها من التوجيهات..
انها دعوة ومقترح للعمل عليه كل من موقعه، وتحديدا الى كتلتنا البرلمانية التي اعطت الى الان اداء متطورا وايجابيا.
تحيات ومحبة البابا “النسطوري” من العراق..
ملاحظة: استخدمت اسم “النسطوري” لسياقات التعبير في الموضوع وليس لصواب التسمية. فكما معروف فان التسمية النسطورية لم وليست تسمية رسمية لكنيسة المشرق.
الخوري عمانوئيل يوخنا
نوهدرا 24 كانون الثاني 2019