المزيد عن الديانة والقومية
حسناً فعل غبطة أبينا البطريرك الجليل مار لويس ساكو بنشر مقاله “الديانة تختلف عن القومية” على صفحة البطريركية الكلدانية بتاريخ 19 تموز 2021.
فرغم ان مضمون المقال لم يأتي بجديد، ذلك ان اختلاف الديانة عن القومية حقيقة معروفة تاريخيا، والتزمتها الشعوب ومؤسساتها الدينية والقومية منذ قرون (فعلى سبيل المثال فان الاشوريين ادركوا هذا الاختلاف والتزموه في الحوارات والافعال على المستوى الفردي والمؤسساتي المدني والكنسي منذ قرن تقريبا)، إلا ان المتابع للحوارات المنتشرة والمستمرة على مواقع التواصل الاجتماعي بعد نشر غبطته لما يمكن تسميته مجازا برسالة الواوات الى رئاسة برلمان كردستان داعيا فيها الى تقسيم شعبنا دستوريا، يرى ان هناك خلطا يفوق المعقول بين المتحاورين والمعقبين منا نحن الكلدان حيث نخلط الديني بالقومي. فما تكاد النقاشات والتعقيبات تبدأ حتى تاتي التعقيبات باننا جميعا مسيحيون واننا واحد في السيد المسيح وغيرها من التعقيبات التي تكشف جهلا واسعا وعميقا بابسط مبادئ وعناصر الهويتين القومية والدينية.
فكما ان ابناء القومية الواحدة يمكن ان يتبعوا اديانا مختلفة او يكونوا لا دينيين او علمانيين او ملحدين، كذلك فان ابناء الدين الواحد يمكن ان يكونوا ابناء طيف واسع من القوميات عبر المعمورة بل وكثيرا ما تقاتلوا في صراعات دموية.
ان خلطنا بين الامرين يؤكد مدى حاجة صحوتنا القومية الكلدانية الى برنامج توعوي بالمفاهيم والمبادئ الاساسية ايضا وليس فقط رفع شعارات المناكفة والحروب الاهلية الداخلية.
جيد ان صحوتنا القومية الكلدانية نقلتنا من خانة المستعربين (بفتح الراء) والمستعربين (بكسرها) الى خانة العودة الى الجذور ولكن من الواضح اننا نعيش أزمة هوية في الوعي والممارسة.
وجيد انه في حين كنا ومن دون احراج نشعر به، فرديا او مجتمعيا او كنسيا، ندرج في الخانة 28 من استمارة تعداد 1977 والخاصة بالقومية ندرج (عربي) او (كردي) ولم نفكر او نسعى ادراج اسم (كلداني) فاننا اليوم نسعى الى تثبيت الهوية والانتماء الكلداني على مختلف المستويات.
إنها نقلات الى امام لو سرناها بحكمة فانه في نهاية النهار نجد انفسنا في ذات الخانة والموقع مع السريان ومع الاشوريين شعبا واحدا، هوية واحدة، وجود واحد، مصير واحد.
من ناحية اخرى فانه حيث اننا نحن الكلدان ما زلنا شعب يلتزم بولاية الفقيه الديني ويدين بالولاء في مجمل اموره الحياتية الى المرجعيات الكنسية وبانها تمتلك الحقيقة التي نجهلها نحن عموم الكلدان، وان واجبنا هو الانصياع لها في كل الامور الدينية والكنسية والسياسية والمدنية وغيرها، فانه من الجيد ان اعلان وتوضيح الاختلاف بين الديانة والقومية جاء على لسان غبطة ابينا البطريرك لانه حينها يكون اكثر مقبولية مما لو جاء على لسان اساتذة واكاديميين في حقل العلوم الانسانية او سياسيون يمارسون الشأن العام.
شكراً لأبينا البطريرك.
ولكن..
الاقرار بحقيقة الاختلاف والفرق بين الديانة والقومية في المفهوم والمبدأ له مترتبات اخرى في التفريق بينهما في الحياة والممارسة الفردية والمؤسساتية.
فهذا الفرق والاختلاف يعني بالضرورة ان المرجعيات الدينية ليست مرجعيات قومية، والمرجعيات الكنسية ليست مرجعيات سياسية. والعكس صحيح. ونقطة على السطر.
ففي حين ان المرجعية الكنسية البطريركية هي مرجعية لابناء تلك الكنيسة في الامور الكنسية فانها ليست بأي شكل من الأشكال لا من قريب او من بعيد مرجعية قومية لابناء الكنيسة فهم اساسا قد يكونوا متعددي الانتماء القومي.
ومن هنا ايضا فان البطريرك، أي بطريرك، عندما يتحدث بالشان القومي (لا الديني او الكنسي) فانما يتحدث باسمه وشخصه هو تحديدا وليس اكثر، وهو يتساوى في ذلك مع اي شخص اخر من ابناء قومه.
وضمن هذا السياق فان المرجعيات السياسية القومية، احزاب وبرلمانيون وغيرهم، هم اكثر استحقاقا للتحدث عن الشان القومي من المرجعيات الدينية.
طبعا هذا لا يلغي ان تعلن المرجعيات الكنسية اراءها ورؤيتها لمجمل الامور ولكن:
- اعطاء الراي في الشان السياسي العام شيء واحتراف السياسة والدخول في مزاريبها ودهاليزها من ترشيحات وتعيينات وتحالفات وتشكيلات واجندات شيء اخر.
- اعطاء الرأي في الشان والنشاط والهوية القومية شيء وتوظيف الشخصية المعنوية والمرجعية وتوظيف ولاء البعض (وسكوت الاكثرية بسبب احترامها للمرجعيات الدينية) لتسويق رؤية وموقف قومي وسياسي شيء اخر.
فمن الجيد ان تدعو المرجعيات الكنسية ابناء كنيستها للعمل على حفظ هويتهم القومية ولغتهم وتراثهم، وجيد ان تدعو ابناء الكنيسة الى الانخراط في الشان العام والمؤسسات والاحزاب القومية والوطنية، ولكن دون وصاية. هذه الوصاية التي لا تجد مؤسساتنا الحزبية والقومية الكلدانية حرجا في اعلانها وممارستها علنا مما يعطي الدليل على مدى ضعف الوعي القومي والسياسي لديها من جهة وعلى أزمة الهوية القومية الكلدانية التي نعيشها من جهة أخرى.
ومن الجيد ان ابينا البطريرك مار لويس ساكو يساهم في صحوتنا القومية الكلدانية ولكنه سيكون اكثر تاثيرا لو التزمت الكنيسة في عهده اعطاء رسائل في هذا الاتجاه ابتداء باعتماد السورث لغة رسمية للكنيسة في مجمعها السنهاديقي ورسائلها البطريركية وطقوسها وتعليمها للصغار والكبار، مرورا بتشجيع تسمية الاطفال باسماء كلدانية (من الحقائق المعروفة ان الاشوريين يسمون اسماءهم باسماء بابل وعشتار وتموز وكلدو اكثر من ما نسمي نحن ابناءنا بها). وغيرها الكثير الكثير من الامثلة على انه يمكن للكنيسة ان تلعب دوراً ايجابيا في صحوتنا القومية الكلدانية اذا ما اردناها صحوة بناء وعودة الى الجذور وليس “صحوة” مناكفة ورد فعل ضد الاخر لتهديمه سعيا وراء مكاسب زائلة من مناصب وامتيازات.
وبعيدا عن الشخصنة وفقط لتبسيط وتوضيح الامور نقول:
أرى ان قداسة البطريرك الراحل مار دنخا الرابع كان قومياً ملتزماً ولكنه لم يكن سياسياً محترفاً.
وبالعكس منه أرى ان غبطة البطريرك مار لويس ساكو سياسياً محترفاً ولكنه ليس قومياً ملتزماً.
فالبطريرك مار دنخا كان دائما يشجع على حفظ اللغة القومية والتحدث والتعليم بها والتزامها لغة رسمية للكنيسة، وكان دائما يشجع على الانخراط في الشان العام ويدعو الناس الى دعم المؤسسات القومية ، وكذلك في مواسم الانتخابات كان يشجع الجميع للمشاركة في الانتخابات والاختيار بحرية، وغيرها من الدعوات لحفظ وحماية الهوية القومية والتعبير عنها والتزامها وتطويرها.
وبهذه جميعها كان قوميا ملتزما.
ولكنه لم يتدخل في يوم من الايام في ترشيح او دعم فلان او علان لمنصب وزاري هنا او مقعد برلماني هناك او منصب تنفيذي هنا او هناك، ولم يشكل مؤسسات ودمى شطرنجية تكون واجهة له.
وبهذه جميعها لم يكن سياسيا محترفا.
وبذلك بقي ألجميع ينظر اليه أباً جامعا.
بالعكس من قداسته فان غبطة أبينا البطريرك مار لويس ساكو لم يعمل على حفظ هويتنا القومية بمجمل عناصرها بل على العكس فان الهوية العروبية طاغية على اداءه وسبق لنا ايراد العديد من المواقف ومنها كلمته في مراسيم تنصيبه حيث اقتصرها على العربية اولا والانكليزية، وكذلك مواعظه ورسائله البطريركية في الاعياد وغيرها.
كما انه طوال خدمته الاسقفية والبطريركية لم يعتمد او يشجع برنامج عمل ثقافي تربوي يعتمد ويهدف الى تعزيز الهوية الكلدانية والانتماء الايجابي اليها والالتزام الفاعل بها، وعندما نادى شيعة مدينة أور بكلدانيتهم فانه لم يتم تشجيعهم واستيعابهم في المؤسسات والاحزاب الكلدانية، ومن بينها الرابطة الكلدانية التي اسسها ورعاها غبطته. نتمنى لدعوته الاخيرة الى اطلاق او تفعيل المؤسسات القومية ان تتم ترجمتها على الواقع ولا تنحصر ضمن المستلزمات الداعمة لرسالة الواوات.
وفي هذا كله فأن غبطته ليس برايي قوميا ملتزما.
وبعكس مار دنخا فان سيدنا البطريرك مار لويس تدخل ويتدخل في تفاصيل العملية السياسية من ترشيحات برلمانية ووزارية وغيرها، ولسنا بحاجة لايراد الامثلة، وبذلك هو سياسي محترف.
وبذلك تنازل أبينا البطريرك مار لويس ساكو طواعية عن أبويته الجامعة.
وختاما، اكرر الشكر والتقدير لغبطة ابينا البطريرك مار لويس ساكو على مقاله (الديانة تختلف عن القومية) واتمنى ان يكون المقال اضافة نوعية نلتزمها في صحوتنا القومية الكلدانية وبرنامج عملها الذي لا يجدر بنا حصره بواوات او وزارات او برلمانات.
الخوري عمانوئيل يوخنا
نوهدرا 31 تموز 2021