محطات من خدمتي في كنيسة المشرق الرسولية (ج1)
كما وعدت مع الذكرى 32 لرسامتي الكهنوتية (15 آب 1987) بان اكتب توثيقا او سردا لمحطات خدمتي في كنيسة المشرق، وكما اعترفت بمشكلتي في الكتابة باني استرسل فيها، ها هو قطار الكتابة هذه ينطلق مع المحطة الاولى.
الخلفية:
يعود ارتباطي مع كنيسة المشرق، ليس بمعنى الانتساب اليها كابن عائلة من اتباعها، وليس بمعنى تقبل العماذ المقدس وتناول الاسرار فيها، بل بمعنى كونها جزءا من حياتي اليومية اتفاعل معها واشعر بالفراغ دونها الى ايام الطفولة المبكرة حيث ترعرت في عائلة ملتزمة الانتماء بكنيسة المشرق.
انا مولود في 6 كانون الثاني 1959 وهو عشية عيد الميلاد بحسب التقويم الشرقي، الذي كان ما زال معتمدا حينها في كنيسة المشرق، ولذلك فان الراهبات الكلدان الذين كانوا يقومون بالتعليم في مدرسة الطاهرة الاهلية، حيث كان اخي الاكبر نمرود طالبا فيها، قالوا لاهلي ان طفلكم ولد وهو يحمل اسمه: عمانوئيل.
الوالد المرحوم بيتو يوخنا كان قريبا جدا من الكنيسة، وكان زميلا (مع فارق العمر) للاديب والمعلم ورجل الكنيسة الشماس المرحوم كيوركيس بنيامين، وازدادت العلاقة الشخصية من خلال العمل مع بعض في شركة نفط عين زالة. والوالد كان يقتني كل الكتب الكنسية الطقسية منذ طبعتها الولى، وبينها كتاب طقس الكهنة المطبوع من قبل القس يوسف قليتا، وكتب الخوذرا وغيرها، والتي ما زلت احتفظ بها.
وبحسب ذاكرتي من ما سمعته من الوالد ان الشماس كيوركيس اقترح في الستينيات على والدي ان يزكيه للرسامة الكهنوتية وارساله الى استراليا كاول كاهن لخدمة الدفعات الاولى من المهاجرين اليها، ولكن الوالد رفض الفكرة لانه وجد الهجرة والغربة بعيدا عن الاهل والاقارب صعبة.
من ناحية اخرى فان سكن العائلة، حيث ولدت وترعرعت، كان بالقرب حد الملاصقة مع كنيسة مريم العذراء في محلة كرى باصى في دهوك.
بيتنا كان يحمل الرقم 1\1 وهو اول بيت في محلة كرى باصى ومدينة دهوك من جهة الكلي (السد حاليا) حيث كانت المساحة بعده باتجاه الكلي وباتجاه الجبل حقول للحنطة. وكان يفصلنا عن جدار الكنيسة بيت المرحوم زيا هرمز هيدو (ابن خالة والدي ووالد الشماس سامي زيا المقيم حاليا في سدني – استراليا).
من هنا كان ارتياد الكنيسة في صلاة الرمش ممارسة يومية ننتظرها ونفرح بها.
وكذلك الطقوس الطويلة للاعياد والمناسبات الخاصة كعيد القيامة والميلاد والشعانين وباعوث نينوى وغيرها.
ضمن طقوس الكنيسة المشرقية لعيد القيامة كنا نقرا ما نسميه طقسيا بالشورايى (ܫܘܪ̈ܝܐ)، ومنها ما كان مخطوطا ومنقولا من تراث الكنيسة ومنها ما كان يؤلفه الكتاب من المؤمنين. واتذكر اني كنت ارتل شورايى يكتبها الاديب عوديشو ملكو، اطال الله عمره، الذي كان وعائلته يسكنون معنا في بيت الوالد.
في المدرسة الابتدائية، كما اخوتي واقاربنا وجيراننا، التحقت بمدرسة الطاهرة الاهلية التي كان اسسها ويشرف عليها المرحوم الخوراسقف فرنسيس اليشوران. ولنا في هذه المدرسة ذكريات طيبة مع زملاء وزميلات العديد منهم ما زال في دهوك (المحامي اكرم النجار، والمحامي افرام فضيل واخرون) ومنهم من هاجر الى دول الشتات، حفظهم الله جميعا واطال عمرهم.
لا يتسع المجال لذكر هذه الذكريات هنا، كما انها ليست موضوع مقالنا.
ولكن هناك نقاط مهمة متعلقة بصيغة او باخرى بموضوع المقال لا بد من ذكرها بشان مدرسة الطاهرة الابتدائية حيث درست فيها الى الخامس الابتدائي قبل الانتقال الى الموصل:
1- في مدرسة الطاهرة الابتدائية كان تعليم اللغة السريانية الزاميا، واتذكر منهج الدراسة كان من وضع الشماس يوسف ميري. في مدرسة الطاهرة الابتدائية تعلمت الالفباء السريانية لاول مرة وعشقتها عشقا ما زال يعيش في ومعي. اتمنى ان كل المدارس الكنسية تلتزم اللغة السريانية درسا الزاميا لطلابها.
2- مدرسة الطاهرة الابتدائية الملاصقة لكنيسة الانتقال الكلدانية كانت مدرسة جامعة لكل ابناء شعبنا من الكلدان (الاكثرية) والاشوريين لا فرق بينهم في المدرسة ولا في ارتيادهم للكنيسة الملاصقة. لم تفرض ادارة المدرسة الكاثوليكية اية شروط مذهبية على طلابها من ابناء كنيسة المشرق، بل واحتضنتهم في المدرسة والكنيسة.
واتذكر اني كنت اقوم باداء الكاروزوثا (ܟܪܘܙܘܬܐ) في صلاة الرمش احيانا. وعند اول اداءي لها، وكنت قد تعلمت من كنيسة مريم العذراء لكنيسة المشرق اسماء اباء الكنيسة حينها: قداسة البطريرك مار شمعون، غبطة المتروفوليت مار يوسف خنانيشو، نيافة الاسقف مار يوالاها، فاذا بي اذكر اسماءهم عوض اباء الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية. وبعد انتهاء الصلاة وعلى سلم الكنيسة شد اذني بمحبة، وليس انتهارا، الاب اليشوران قائلا لماذا لم تذكر اباء الكنيسة الكاثوليكية، فاجبت اني هكذا تعلمت من صلوات الرمشا في كنيسة مريم العذراء. وكان حاضرا في هذه المحاورة العابرة والجميلة الاستاذ عوديشو خوشابا، معلمي الكبير، اطال الله عمره.
3- في مدرسة الطاهرة الابتدائية كان هناك مكتبة ثرية للمطالعة بما يناسب اعمار الطلبة ومرحلة دراستهم. وفي هذه المدرسة اصابني مرض المطالعة واقتناء الكتب. كان ذلك بسبب استاذي ومعلمي عوديشو خوشابا الذي دعاني يوما (اعتقد في الصف الثالث او الرابع) قبل بداية العطلة الصيفية وقال لي: عمانوئيل هذه الكتب اعطيها عندك لتقراها في العطلة. اتذكر بعض عناوينها كانت: كل شيء عن، وعناوين اخرى بينها قصص مصورة مطبوعة بحروف كبيرة لتسهيل القراءة، واتذكر انها كانت مجلدة بالورق الاسمر.
4- في المدرسة كنا نحتفل مع كنيسة الانتقال الكلدانية احتفالات دينية متميزة، وبخاصة عيد الشعانين حيث كنا نرتدي زي ابيض واغصان الزيتون، وما زال صدى ترتيلة (ܟܠܟ̣ܘܢ ܥܡܡ̈ܐ ܩܘܫܘ ܟܦܐ) يصدح ويهلل في اذني.
لا بد من توثيق كلمة شكر ومحبة واعتزاز لجيل المعلمين الذين تعلمت وتربيت على ايديهم في هذه المدرسة التي اتمنى ان تكون، اجواء وادارة ومناهجا، نموذج لمدارس كنائسنا الابتدائية.
الاستاذ سعيد عكيد، شماشا جورج، رابي جورج (لست اتذكر ان كان هو نفسه الشماس جورج)، استاذ عبدالمسيح، استاذ عوديشو خوشابا، واخرون ممن لا تحضرني اسماءهم.
رحمة على ارواح المنتقلين منهم، ومحبة وتمنيات طيبة للاحياء.
من الذكريات الطيبة عن مرحلة دراستي الابتدائية في مدرسة الطاهرة اني كنت متفوقا في الصف وكنت انال لقب : فارس الصف، وكانت معي الطالبة ساهرة توما القس (عائتها معروفة من قرية كواني) وكانت ايضا متفوقة وتنال لقب فارسة الصف. لست اعرف اين هي الان، اغلب الظن كندا، واتمنى انها والعائلة بصحة وعافية.
في احدى المرات كانت شهادتي تقول: االناجح الثاني، بينما كانت ساهرة الاولى. وعندما رجعت للبيت وقلت اني الثاني والاولى هي ساهرة، قال لي جدي المرحوم يوخنا (شعبيا كان الاسم المختصر: جنو)، وكان يمتلك روح النكتة، انه كيف قبلت على نفسي ان تسبقني بنت. لا استطيع ان اتذكر واحكم الان اذا كان، رحمه الله، يمزح ام كان يعكس الذهنية الذكورية.
مع مرحلة الصف الخامس مع انتقال العائلة الى الموصل عام 1968 بقيت مرتبطا عقلا وقلبا مع دهوك ومدرسة الطاهرة وكنيسة الانتقال حيث اصريت مرارا ان يجلبني والدي الى دهوك لتقبل الرسامة كشماس في كنيسة الانتقال الكلدانية. لم يكن هذا حينها بناء على روح مسكونية كالتي نفهمها ونلتزمها اليوم، بل كان شعورا وجدانيا بالانتماء، ويعكس ان التربية التي تربيناها في دهوك مجتمعيا وفي المدرسة والكنيسة لم تكن تعطي شعورا بالتفرقة او الاختلاف مع العوائل والطلبة والصبية ممن عشنا معهم.
في الموصل حيث البيت في مدينة الزهور (اتذكر الشارع رقم 1) والكنيسة في الدواسة (وسط الموصل) لم يكن ممكنا ارتياد الكنيسة بشكل يومي لصلاة الرمش بل اقتصرت على صلاة الرمش لايام الاحاد (اي السبت مساء) بالاضافة الى القداديس والاعياد والايام الخاصة.
ولكن بقينا وباشراف الوالدة، رحمها الله، نصلي الرمش في البيت ولفترة طويلة بعد انتقالنا الى الموصل.
في احد الايام انتبهت ان الوالدة في صلاة لاخومارا تقول في مطلع تكرار الصلاة: (خودك ايذك الاها) فاستغربت الجملة وسالتها فقالت: ابني هكذا تعلمت منذ طفولتي.
طبعا العبارة الطقسية الصحيحة هي: (ܒܟ̣ܠ ܕܘܟ ܐܝܬܝܟ ܐܠܗܐ).
في الموصل وفي مرحلة السادس الابتدائي بمدرسة الزهور الابتدائية في الامتحان الوزاري تصادف ان سؤال كتابة الانشاء في درس اللغة العربية كان ان الطالب يكتب ماذا يريد ان يصبح في المستقبل.
كتبت ما كان في وجداني وداخلي اني اريد ان اكون قسا.
ولدى عودتي للبيت واعلام اخوتي بالاجابة قالوا لي: مجنون انت. كيف تكتب هذا؟ سيرسبونك.
ولكن النتيجة جاءت نجاحا بتفوق.
رجاء محبة من زملائي طلاب مدرسة الطاهرة: اتمنى ان تشاركوني صور لتلك الايام المباركة الطيبة، وتصحيح للمعلومات او اغناء لها، فذاكرة الانسان قد تخونه احيانا، خاصة وان الشيب قد بلغني.
اشكر الاخ والزميل العزيز المحامي افرام فضيل لنشره صور الشهادات ادناه قبل فترة على صفحته، والتي لولاه لما كنت قد حصلت عليها.
المحطة القادمة: بغداد – كنيسة مار عوديشو – الرسامة شماسا انجيليا.
الخوري عمانوئيل يوخنا
نوهدرا دهوك 20 آب 2019