Home / Articles/Books / Articles / ج1 البطريركية قبل البطريرك.. نقاش لا يخلو من صراحة مؤلمة..

ج1 البطريركية قبل البطريرك.. نقاش لا يخلو من صراحة مؤلمة..

البطريركية قبل البطريرك.. 

نقاش لا يخلو من صراحة مؤلمة..
الجزء الاول

المدخل
المقصود بعنوان المقال (البطريركية قبل البطريرك) ليس التعريف التقليدي الشائع للبطريركية بمعنى مقر او بناء او مكان اقامة البطريرك والدوائر التابعة له، بل المهام والمسؤوليات المناطة بالسلطة البطريركية وبرامج عملها وتوقعات وامال الشعب المؤمن من مرجعيته البطريركية، وهذه جميعها نراها مهمة للنقاش وتبادل الراي ومنها تاتي المعايير التي ترشد وتحدد من يختاره اباء المجمع المقدس لنيل الدرجة البطريركية.
من هنا جاءت تسمية المقال (البطريركية قبل البطريرك).

منذ شغور الكرسي البطريركي لكنيسة المشرق الاشورية بانتقال قداسة البطريرك مار دنخا الرابع الى الاخدار السماوية في اذار المنصرم فانه من الطبيعي ان السؤال والتساؤل المشروع عن البطريرك القادم يفرض نفسه على مساحات النقاش وحلقات الحوار لكل منا مع نفسه وعائلته ومحيطه، بل ويتطلب نقل الحوار الى فضاء النقاش العام لانه ببساطة موضوع يخص عموم ابناء شعبنا، بمختلف انتماءاته الكنسية والمناطقية والوطنية، رغم خصوصيته “المهنية” من حيث كونه يخص كنيسة المشرق الاشورية، ورغم حصرية “الية” اختياره باعضاء المجمع المقدس لكنيسة المشرق الاشورية.

في الحقيقة انا لم اكن لاستغرب من هكذا حوار بغض النظر عن الالتقاء او الاختلاف مع ما يرد فيه من اراء وملاحظات وتمنيات وغيرها.
جميعنا يتذكر كيف ان ايقاف اسقف متمرد كان موضوع الحوار اليومي لسنوات، وشاركت فيه جحافل من المؤسسات “القومية” وقادته “شخصيات” سياسية مشاركة في الانقلاب والمؤامرة الفاشلة التي اباحت لنفسها ليس فقط سلطة الحكم على مقررات المجمع المقدس بل وممارسة ابشع الممارسات من التسقيط والاساءات والفبركات ونفث السموم وهدر الوقت والجهد والمال وتمزيق النسيج الاجتماعي لابناء الكنيسة.
فكيف لا يكون موضوع البطريرك القادم موضوعا نقاشيا وحواريا نتمنى ان يتعظ المشاركون فيه من دروس الماضي ويلتزموا معايير اخلاقية لنقاش موضوعي ايجابي.

على العكس من ذلك فاني استغرب ان نقاش الموضوع وتداوله في وسائط النشر والحوار المتاحة لشعبنا، وجلها الكترونية، هو لحد الان نقاش عابر لم يرتق الى مستوى الحدث واهميته ونتائجه.
فاضافة لطرح الاخ تيري بطرس الذي رغم نيته وسعيه لتحريك مياه مبادرات وحوارات راكدة الا ان طرحه مضمونا وشكلا وتوقيتا كان كبوة فارس، فان الطرحين الوحيدين اللذين ارتقيا لمستوى الحدث كان مقالي الاخوة اشور سمسون وليون برخو.
اتمنى على النخب المثقفة لشعبنا اغناء النقاش، فذلك ليس تدخلا في شأن كنسي بل اغناء معارف ومدارك اباء الكنيسة على مختلف ابعاد الموضوع والمسؤولية التاريخية للقرار في لحظة مفصلية من وجود ومستقبل شعبنا وكنائسه، خاصة وان بطاركة كنائس المشرق لا ينحصر دورهم في ادارة الكنيسة وارشادها الروحي والعقائدي، بل لهم دور كبير ومؤثر في المواقف والقرارات المتعلقة بالوجود والمطالب والاستحقاقات المختلفة ومن بينها، بل وفي مقدمتها، السياسية. فكما قال احدهم ان الكنيسة هي اكبر احزاب شعبنا.
المهم ان يلتزم النقاش المعايير الادبية في احترام الراي والراي الاخر.

رغم كون الكاتب من اكليروس كنيسة المشرق الا ان المقال لا يمثل باي حال من الاحول بمضمونه، كليا او جزئيا، وجهة نظر او موقف كنيسة المشرق الاشورية ومرجعيتها السنهاديقية. انه مقال يعبر عن رؤية الكاتب فقط، وبكل امانة وصراحة اقول اني اتوقع الكثير من الاختلاف او عدم الاتفاق بين الرؤية الواردة فيه ورؤية اباء الكنيسة منفردين ام مجتمعين.

كنيسة المشرق الاشورية في بطريركية مار دنخا الرابع
لا يمكن تقديم رؤية موضوعية واطلاق حوار او نقاش بناء لموضوع المقال دون عرض مختصر لواقع كنيسة المشرق في العقود السابقة وواقعها الحالي، او لنقل دون عرض مختصر لواقع كنيسة المشرق في فترة بطريركية الراحل مار دنخا الرابع بما ورثه عن سلفه وما قام به في سدته البطريركية وما اورثه للبطريرك القادم.

ماذا ورث البطريرك مار دنخا الرابع عن سلفه؟
1- اول ما يتوجب ايراده عن الارث الثقيل الذي ورثه البطريرك مار دنخا الرابع هو ان كنيسة المشرق ومنذ خمسة قرون لم تنتخب بطريركها بالية انتخاب في مجمعها المقدس، ذلك انه ومنذ القرن السادس عشر كانت البطريركية وراثية، ولسنا هنا بصدد تقييم الالية تلك والظروف التي حتمتها وغيرها، مثلما لسنا بصدد مناقشة اتخاذ التوريث حينها ذريعة لتقسيم الكنيسة ذلك ان الكنائس المشرقية الرسولية جميعها انقسمت الى قسم اتحد مع الكنيسة الرومانية والقسم الاخر بقي على هويته اللاهوتية والطقسية كما ورثها من الرسل والاباء. كما لسنا بصدد الاجابة على اي من الكرسيين الحاليين (المشرقي الكلداني ام المشرقي الاشوري) هو من سلسلة البطاركة المتحدين واي هو من سلسلة البطاركة “النساطرة” فهذه جميعها تستحق الدراسة الاكاديمية والموضوعية ولكنها ليست ضمن مقالنا هذا.
اول بطريرك منتخب لكنيسة المشرق كان البطريرك الراحل مار دنخا الرابع الذي تولى السدة البطريركية في وقت حرج، وجاء انتخابه سلسا من حيث كونه الخيار الاوحد والوحيد حينها بحكم اداءه وحضوره ورؤيته وفعاليته التي تجاوزت حدود ابرشيته الاسقفية على ايران لتشمل الكنيسة بابرشياتها القائمة حينها من جهة، ومن حيث شجاعته وشعوره بالمسؤولية التاريخية وعدم تهربه من اعباءها وهو الذي كان يدرك كم هي ثقيلة الا انه تولاها معتمدا على ثقته بوعود الرب وارشاد الروح القدس.
المشهد يتكرر نصفه الان من حيث وجود خيار واضح يدركه ابناء الكنيسة واكليروسها مع بقاء النصف الثاني مفتوح الاحتمالات من حيث اختيار الخيار ام اختيار بديل للخيار ام ملء الفراغ.

2- كنيسة المشرق الاشورية التي ورثها مار دنخا كانت تفتقر الى الحد الادنى من الهيكلية، وبخاصة على مستوى البطريركية التي كانت منفية ولا تعيش مع رعاياها المؤمنين ولا تتواصل بروح الشراكة مع اباء المجمع المقدس، بل لم يكن هناك اي التئام دوري ومنتظم للمجمع المقدس ناهيك عن مقررات وبرامج عمل لا يمكن ان تاتي بدون انتظام المجمع وروح الشراكة بين البطريرك واخوته اعضاء المجمع.

3- في عهد البطريرك الراحل مار شمعون، وبمسؤولية غير قليلة له عن ذلك، انقسمت الكنيسة المشرقية الى كنيستين. فكان على البطريرك مار دنخا وراثة الانقسام الذي كان ما زال حديثا ومؤثرا وحاضرا في حياة الكنيسة وابناءها.
بالتاكيد فان كل اباء الكنيسة يتحملون “نظريا”، بسبب موقعهم في هرم الكنيسة، المسؤولية الجزئية عن الانقسام من حيث فشلهم في راب الصدع بين البطريرك مار شمعون والمطروفوليط مار توما درمو لمدة اكثر من خمسة اعوام هي الفترة التي عاشها المطروفوليط موقوفا (بمعنى الكنيسة لم تكن انقسمت بعد) لحين رسامته البطريركية في 1968 ببغداد وهي الرسامة التي قسمت الكنيسة الى كنيستين.
ولكن ما يشفع لهم هو ان البطريرك مار شمعون لم يكن ابا شريكا يحاور ويستمع مما يعفيهم “عمليا” من المسؤولية في الانقسام الذي فرض عليهم ليعيشوه ويتعاملوا معه.

4- الوضع السياسي والقومي الذي كانت تعيشه الكنيسة في الوطن والمهجر..
ففي المهجر كان هناك شبه استحواذ مطلق للاتحاد الاشوري العالمي وحضوره وفعاليته بحيث لم يكن من الممكن لاي بطريرك ان يتجاهله او يتجاوزه.
وفي الوطن كان هناك على المستوى السياسي للدولة النظام البعثفاشي في اوج طغيانه وسياساته العروبية والتعريبية وسياسة الارض المحروقة وتدميره لقرى ومواطن بغاية اجتثاث الوجود القومي لشعبنا من جهة، ونمو واتساع مساحة العمل القومي بين الشبيبة الاشورية التي تصاعدت مع زيارات الاتحاد الاشوري العالمي الى العراق وشخص مالك ياقو وانطلاق العمل السياسي المؤطر، ولو بشكل سري، المتمثل بالحزب الوطني الاشوري ومجالات نشاطه (في الكثير من الاحيان كانت واجهاته غير المعلنة) من لجان الشبيبة الكنسية والطلبة الجامعيين والاندية الثقافية وغيرها.
لقد كان على البطريرك الفتي مار دنخا الرابع التعامل مع هذا الواقع المعقد والمتشابك مع البقاء امينا على كنيسته وحضورها ووفيا لشعبه ووجوده.
لا يتفق الكثيرون مع اطلاق التسمية الاشورية على اسم الكنيسة. ولكن بمعرفة وقائع الامور حينها، وبخاصة سياسات التعريب وتماهي الكنائس الشقيقة معها، كان لاعتماد التسمية الاشورية اثاره الايجابية من حيث تحصين الوجود وحمايته من قبل الكنيسة التي كانت اخر معقل وحصن في وجه البعثفاشية العروبية.
الا اني اعتقد انه ومع اداء الاضافة لمهمتها ومع قيامها بمهمتها كجزء من الحل فانه ومع زوال النظام العروبي فان الاصرار على ابقاءها جزءا من اسم الكنيسة جعلها جزءا من المشكلة. ولا اعتقد ان اي متابع حيادي وموضوعي ينكر ان “اشورية” الكنيسة و”الالحاح” عليها في العقدين الاخيرين باتت جزءا من المشكلة وانه كان على المرجعيات الكنسية الانتباه اليه وتداركه من البداية.
شخصيا ومعي الكثيرين، وفي قراءة استشراقية للمستقبل، دعونا لرفع التسمية الاشورية من الكنيسة منذ التسعينيات والاكتفاء بالاسم التاريخي لها (كنيسة المشرق الرسولية) الا انه، وللاسف، فان دعواتنا لم تلق الصدى حيث كان ضجيج جيوش حربنا الاهلية، حرب التسمية، اقوى واعلى، وبخاصة مع وجود جنرالات لهذه الحرب في هرم الكنيسة ذاتها.
وشخصيا ايضا فاني لم استخدم التسمية الاشورية للكنيسة الا عندما تحتم علي الموضوع او المناسبة ذلك من حيث كوني اكليركي في الكنيسة.

5- انحسار وانكماش الحضور الكنسي في حياة المؤمنين حيث كانت الكنيسة متحفا او مسرحا لممارسة الطقوس دون ان يكون لها اي حضور او فاعلية في حياة المؤمنين اليومية.
وانعكس ذلك على الدعوات الكهنوتية التي كانت فقيرة العدد والمؤهلات باستثناء الدعوات التي تزامنت مع زيارة البطريرك مار شمعون الى العراق بعد عقود من النفي حيث تقدم وتقبل العشرات من الشبيبة للدعوات الكهنوتية المختلفة. بطبيعة الحال فان ذلك كان اندفاعا عاطفيا ما لبث ان خبا لانه لم يكن نتاج برامج راعوية وتربوية كنسية.
نشير بالبنان والتقدير للعديد من ثمار هذه الدعوات ممن هم الان في مواقع المسؤولية الكنسية من مطارنة واساقفة وكهنة.

6- الافتقار الى البوصلة الحكيمة في اولويات الكنيسة، حيث ورغم الواقع الكنسي الضعيف والوجود القومي المهدد فان بطريركية مار ايشاي شمعون، بحكم انفصالها عن واقع شعبها في الوطن وبحكم شخصنتها للامور وبقاءها اسيرة مسار شعبنا المؤلم في عقود توليها للسدة البطريركية، فانها لم ترتق الى مسؤولية المرحلة. ويكفي ان نستذكر انه في اوج التفاف شعبنا حول البطريرك مار شمعون اثناء عودته الى العراق بعد عقود من النفي، وهو الالتفاف الذي تجاوز حدود كنيسته ليشمل ابناء بقية الكنائس ايضا، والذي انعكس مشهدا لن يتكرر في الطوفان البشري في شوارع بغداد فان خطابه البطريركي في زيارته ولقاءه بشعبه بعد عقود النفي والاغتراب القسري كان مركزا على البطريرك مار توما درمو في استثمار غير سليم لهذا الالتفاف عوض استثماره في توجيه ابناء كنيسته وشعبه نحو امور واستحقاقات اكثر اهمية بكثير.

ماذا حقق البطريرك مار دنخا الرابع في بطريركيته؟
سؤال لا يحتاج مني الكثير من الاستفاضة ذلك ان المتابعين للجناز وتابين البطريرك الراحل والتغطية الاعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة قدمت الاجابة الوافية للسؤال، ولكني وباختصار اكرر هنا الانجازات الكبيرة للبطريرك الراحل بشكل نقاط مختصرة وكما يلي:
•   نهضة في الدعوات الاكليروسية
•   تنمية المؤهلات الاكاديمية للاكليروس
•   نهضة في البرامج والانشطة الشبابية الكنسية
•   تنظيم دورية انعقاد المجامع السنهاديقية
•   تشييد الكنائس في الوطن والمهجر

الا ان اهم ما يميز بطريركية مار دنخا هي:
•   الحضور في المشهد المسكوني وطنيا (كل ابرشية في وطن وجودها) واقليميا (شرق اوسط) وعالميا. حيث بعد قرون من الغياب عن المشهد الكنسي والانعزال في خارج (وفي افضل الاحوال التواجد في هامش) المشهد الكنسي المسكوني فان قداسته نقل الكنيسة المشرقية الى الحضور في قلب ومركز المشهد. واذا كان توقيع الاعلان المسيحاني المشترك مع الكنيسة الرومانية اهم محطات وثمار هذا الجهد، فانه لا يمكن اغفال العلاقات مع الكنائس الشقيقة الارثوذكسية.
•   التواصل مع ابناء الكنيسة في دول الاتحاد السوفياتي السابق وتلبية احتياجاتهم، بقدر الامكان، من الاكليروس وغيرها. بالاضافة الى زياراتهم دوريا مما اعاد لهم الشعور بالانتماء والهوية الكنسية.
•   توحيد شطري كنيسة الهند بعد عقود من الانشقاق.

ماذا اورث البطريرك مار دنخا الرابع لمن يخلفه؟
رغم الرصيد الكبير للبطريرك مار دنخا الرابع، ورغم القائمة الطويلة من الانجازات التي تحققت في خلال ابويته البطريركية، ورغم الطاقات الكامنة الكبيرة في الكنيسة التي اورثها البطريرك الراحل، الا انه، وما دمنا نستشرق الافاق المستقبلية للكنيسة ودراسة واقعها ومتطلباتها، فانه لا يمكن لنا ان نغفل ما في واقع كنيستنا من هشاشة وسلبيات، فليس من العدل والحكمة تصوير الامور على انها لوحة وردية متكاملة الاوصاف.
على العكس من ذلك تماما، حيث يجب ان نكون موضوعيين وصريحين مع انفسنا وضمائرنا وابناء شعبنا في تحديد مواطن الضعف والهشاشة دون ان يعني ذلك ابدا انتقاصا من ما حققته الابوية البطريركية لمار دنخا الرابع. بل وحتى لو اردنا ان “نشخصن” الامور فاننا نقول انه وفاء للبطريرك الراحل وضمانا لديمومة ثمار البيدر الذي زرعه فانه يتوجب علينا ليس التوقف فقط عند الارث الغني الذي اورثه (كما في النقاط اعلاه) بل ايضا تشخيص الارث الذي اورثه لخلفه القادم.
فنقول بعضا من النقاط تاركين غيرها بسبب ضيق المجال:

1- كنيسة المشرق ورغم سعة انتشارها في الوطن والمهجر، ورغم تعاملها مع العصر ومتطلباته، ورغم امتلاك الكثير من اكليروسها وابناءها للقدرات والمؤهلات، الا انها ما زالت كنيسة غير مؤسساتية، ابتداء بالبطريركية حيث لا وجود للحد الادنى من المؤسسة البطريركية ومكاتبها ودوائرها، مرورا بالافتقار الى الهيئات واللجان الاختصاصية (اللاهوتية، الطقسية، القانونية، التعليمية، الخ) على مستوى الكنيسة او الابرشيات.

2- من نتائج ذلك ان كنيسة المشرق باتت الى حد كبير بين ابناءها كنيسة مشخصنة ومختزلة في شخص البطريرك الذي بات يسمو على الكنيسة. ان الخطأ في هذا الامر ليست في ابداء الاحترام اللائق لشخص البطريرك فذلك حق وواجب، ولكن في اعتباره مرجعية معصومة في كل امور الحياة الدينية والدنيوية، الكنسية والسياسية، وغيرها.. واتساع مساحة الخطأ كانت وما زالت متمثلة في استنساخ المطارنة والاساقفة لهذا النموذج في ابرشياتهم بحيث اصبحت كل ابرشية (مع بعض الاستثناءات) مختزلة في شخص اسقفها الذي هو الآمر والناهي والمدرك ببواطن الامور وظواهرها سواء كانت كنسية او دنيوية حتى الهندسية والادارية والمالية منها.

3- ومن نتائج الافتقار الى المؤسساتية والهيئات الاختصاصية واختزالها بشخص البطريرك او الاسقف فان الكنيسة افتقرت الى الرؤية الواضحة لوجودها الكنسي ووجود شعبها القومي. التذبذب والتناقض بين الرسائل التي اعطتها الكنيسة ومرجعياتها في الامور المختلفة (العلاقات مع الكنائس الشقيقة، حرب التسمية، التشبث بالوطن وهجرة وتهجير اكليروس الكنيسة، الحقوق والمطالبات السياسية، الخ) كانت سمة سلبية اتسمت بها كنيسة المشرق على مستوى المرجعية البطريركية او المرجعيات الابرشية.
واكثر التناقضات تجليا كان الدعوة للتشبث بالوطن مع ابقاء (لا اقول بقاء) الكرسي البطريركي في المهجر، خاصة مع انتفاء المسببات وسقوط الاعذار التي لم يعد احد يصدقها سوانا نحن معشر مطلقيها.

4- ومن نتائج ذلك ايضا ان الكنيسة باتت هشة ومستعدة لمسايرة الظواهر الصوتية والعاطفية الموسمية لشعبنا.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، مسايرة للمتطرفين التسمويين من ابناءها فان الكنيسة المشرقية، التي هي كنيسة رسولية جامعة بايمانها ولاهوتها وتاريخها وواقع ابناءها، باتت كنيسة متطرفة قوميا حتى ان الولاء والهوية القومية باتت اولوية تسمو على ايمانها وهويتها المسيحية والكنسية. وان “الوحدة” القومية باتت تسمو على الوحدة الكنسية.

5- وضمن نتائج الافتقار الى العمل المؤسساتي والاختصاصي، بالاضافة الى كلاسيكية مرجعيتها البطريركية فان الحياة الكنسية بقيت محافظة غير منعشة ومنتعشة، سواء في الليتورجيا او القوانين او التنشئة الكنسية. الحياة الروحية في الكنيسة تعيش خريفا. والكنيسة غائبة عن الحياة اليومية لابناءها.
بالتاكيد هناك مبادرات وبرامج في العديد من الابرشيات والكثير من الرعيات ولكنها نتاج مبادرات رئيس الابرشية او كاهن الرعية وليست نتاج برنامج وخطة عمل كنسية شاملة.

كلمة حق في البطريرك الراحل
ان نقاط الضعف والهشاشة في هذا الارث لا يعني مطلقا انتقاصا من انجازات البطريرك مار دنخا الرابع، مثلما لا يمكن تحميله وحده مسببات هذا الارث دون بقية الاباء والاكليروس والمؤمنين، بالاضافة الى الظرف الموضوعي المحيط بالكنيسة.
فالبطريرك مار دنخا تولى قيادة الكنيسة في اكثر الظروف صعوبة وباقل امكانات وعناصر قوة ذاتية لها، ولكنه بحكمته وطول اناته، والاهم من كل ذلك بغيرته وتفانيه من اجل كنيسته وشعبه استطاع ان يقودها الى بر الامان حيث توافرت لها اليوم عناصر قوة وطاقات كامنة تمكنها من الانطلاق نحو مستقبل افضل وانعش اذا ما قرر اباءها اختيارهم وخيارهم بتجرد من الذات الشخصية.
البطريرك الراحل اعطى للكنيسة المشرقية كل ما كان في وسعه، وانتشلها من واقعها ورفعها ودفعها نحو المستقبل.
ومن البديهي ان الاجيال التي فتح لها قداسته الباب ليعملوا وينتجوا ويثمروا ويقودوا الكنيسة ستتقدم عليه في الرؤية والطاقة والابداع وامكانات العطاء. فهذا قدر الحياة.
السنا نتفوق على اباءنا الذين فتحوا لنا ابواب التعلم والتقدم والعطاء، وهذا ليس انتقاصا منهم بل هو اعتراف بافضالهم. واباءنا فخورين بذلك.
والا يتفوق علينا ابناءنا بعد ان فتحنا لهم الباب لذلك ايضا حتى بتنا غير قادرين على مواكبتهم، وهذا ليس انتقاصا من ابوتنا لابناءنا بل نحن نزداد فخرا بهم كلما تقدموا علينا.
الامر كذلك مع اباء الكنيسة..
ابونا الراحل مار دنخا الرابع كان فخورا بابناءه الاساقفة والاكليروس والمؤمنين لانهم لبوا دعوته لهم بالتعلم والاندفاع والعطاء وعيش عصرهم.
البطريرك مار دنخا علم من اعلام الكنيسة المشرقية وسيبقى اسمه مرصعا بالذهب في تاريخها ومستقبلها.
الكنيسة المشرقية مدينة لابيها الراحل بكل ما لديها اليوم من اباء واكليروس ومؤمنين وطاقات ورؤى نحو المستقبل.
نم قرير العين ابينا البطريرك مار دنخا الرابع.

للمقال تتمة

الخوري عمانوئيل يوخنا
نوهدرا 2 ايار 2015

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *