البطريركية قبل البطريرك..
نقاش لا يخلو من صراحة مؤلمة..
القسم الثالث وهو الاخير
(ملاحظة: اعتذر للقراء لكون هذا القسم كتب على عجالة ربما انعكست في بنية المقال.. ذلك اني تحت ضغط الوقت لانجاز عدد من المشاركات في حزيران من يوم الكنيسة الالمانية في شتوتغارت الى مؤتمر في زيورخ الى جلسة نقاش في البرلمان الاوربي في بروكسل.. فمعذرة.)
اما وقد غطينا في القسمين السابقين للمقال، ووفق راينا المتواضع، القضايا التي على البطريركية القادمة التعامل معها والتي تراوحت بين الكنسية الداخلية والمسيحية المشرقية والقومية والوطنية، وبالتالي العوامل المختلفة التي يجدر اخذها بعين الاعتبار في اختيار البطريرك القادم لكنيسة المشرق الاشورية لتجعل ارادته وادارته البطريركية بمستوى تحديات المرحلة وبمستوى طموحات ابناء الكنيسة فاننا نعود الى حيث بدانا به المقال، ونقتبس حرفيا:
(المقصود بعنوان المقال (البطريركية قبل البطريرك) ليس التعريف التقليدي الشائع للبطريركية بمعنى مقر او بناء او مكان اقامة البطريرك والدوائر التابعة له، بل المهام والمسؤوليات المناطة بالسلطة البطريركية وبرامج عملها وتوقعات وامال الشعب المؤمن من مرجعيته البطريركية، وهذه جميعها نراها مهمة للنقاش وتبادل الراي ومنها تاتي المعايير التي ترشد وتحدد من يختاره اباء المجمع المقدس لنيل الدرجة البطريركية.) لنسال عن المعايير او “المحددات” التي ترشد عملية الاختيار فنقول وبكلمات تتحدث عن نفسها:
• الروحية المسيحانية المقترنة بالرؤية الواضحة كنسيا ومسكونيا وقوميا ووطنيا
• الايمان التام والالتزام المطلق بمساعي توحيد الكنيسة الواحدة والشراكة مع الكنائس الشقيقة
• منهجية العمل المؤسساتي بتفاصيله ومتطلباته من الهيكلة والشفافية والمحاسبة
• الكاريزما والموهبة القيادية المترافقة مع روح العمل الجماعي
• الخبرة والرصيد التراكمي التصاعدي من المبادرات والانجازات في سنين الخدمة الكنسية
• المقبولية الاكليروسية والشعبية بين ابناء الكنيسة والكنائس الشقيقة
• الحضور الفاعل والمؤثر في المشهد الكنسي والمشهد المسيحي المشرقي والساحة القومية
• قبول الاخر المختلف والتواصل والتحاور معه بحثا عن مساحات الالتقاء والبناء عليها
• الدراية باوضاع وتحديات واساليب العمل في الوطن والمهجر
• عيش روح العصر والتفاعل الايجابي معها وتوظيفها في الرسالة الكنسية واداء مؤسساتها
• الطاقة الذهنية والمعنوية والجسدية (البايولوجية) القائمة على روح وقدرات الشبيبة وخبرة وحكمة الشيوخ
• التحرر من شرنقة الذاكرة المخدشة كنسيا ومذهبيا
• اعتماد (كونوا ودعاء كالحمام وحكماء كالافاعي) بديلا عن نظرية المؤامرة التي هي ملجأ الضعفاء لتبرير قصورهم وفشلهم
أفضل ما نتمناه ونستحقه
ان بطريركا بهذه المواصفات والمعايير هو المبارك الاتي باسم الرب الذي سيجعل ابناء الكنيسة يهتفون تهليلا وبنشوة فرح روحي عارم لحظة اعلان تسميته بطريركا منتخبا ومناداة اسمه في (الكاروزوثا) لانهم يثقون انه سيطلق الطاقات الكامنة الموجودة فيهم ويجدون في شخصه الامل والثقة بالمستقبل في هذا الزمن الصعب.
ان بطريركا بهذه المواصفات وحده من يقدر ان يعيد اطلاق الكنيسة عنفوانا بل وثورة كالتي اطلقها البطريرك الراحل مار دنخا الرابع يوم انتخابه لقيادة الكنيسة. الكنيسة اليوم بحاجة الى راع يرعاها ومرشد يرشدها وقائد يقودها نحو الامام ويحررها من الجمود والانغلاق. الكنيسة ليست متحفا وتاريخا بل حياة ومستقبل، وانها ليست مجرد ارشيف وصور بل وجود وتصور.
ان بطريركا بهذه المواصفات فقط يمكن ان تكون ساعات يومه مثمرة وممتلئة نشاطا وحضورا في جميع الاصعدة وفي كل جغرافيا الكنيسة وشعبها وقضاياها من اربيل الى نوهدرا الى بروكسل ونيويورك، من الندوات الاختصاصية وورش العمل والمؤتمرات الى المنابر والفضاء الاعلامي من تلفزة وانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
ان بطريركا بهذه المواصفات يجعل الكنيسة اكليروسا ومؤمنين يشعرون بانهم في ريعان شبابهم وبان الكنيسة تتجدد دماءها وحيويتها لتعيش العنصرة كل يوم. وستطمئن اليه لجان الكنيسة بان لهم حضور ودور في نظام عمل ومؤسسات وبرامج، وسيطمئن الشبيبة بانهم اجيال ومستقبل الكنيسة التي هي امانة باعناقهم.
ان بطريركا بهذه المواصفات سيجعل اكليروس الكنيسة يطمئنون بان لهم صوتا مسموعا في ادارة الكنيسة ومؤسساتها ومجامعها وليسوا مجرد موظفين مدفوعي الاجر. وسيبث في الاباء المطارنة والاساقفة روح العمل الممنهج والمؤطر لتتكامل جهودهم وجهود ابرشياتهم.
ان بطريركا بهذه المواصفات سيجعل المرجعيات الكنسية الشقيقة تتلمس فيه شريكا في التعامل مع الهم الكنسي المشرقي حيث سيكون بطريرك المرحلة ليلاقي اخوته بطاركة المرحلة وبخاصة بطاركة الكنائس المشرقية ذات التراث والهوية القومية المشتركة: مار لويس ساكو، مار اغناطيوس افرام، مار اغناطيوس يونان.
ان بطريركا بهذه المواصفات سيطمئن الشعب ان له حماية يتضلل بها في زمن القرف والانحراف والانهيار، وبان له من يؤمن بوحدته ويسهر عليها ويلتزمها في زمن بات التشطير والتقسيم “ثقافة” و”انتصار”.
هل هناك هكذا خيار متاح ام انا واهم وحالم؟
نحن نؤمن يقينا ان الكمال لله وحده.
ولكن وضمن الانسان الذي مهما بلغ وارتقى يبقى ناقصا، فان هناك دائما من هو خيار ورجل المرحلة.
وبذلك انا لست حالما او واهما بل شاهدا ومتلمسا حيث ارى المشهد الانتخابي لانتخاب قداسة البطريرك الراحل يتكرر نصفه الان من حيث وجود خيار واضح يدركه ابناء الكنيسة واكليروسها.
السؤال ليس في وجود الخيار من عدمه بل في قبول الخيار ان يصبح قرارا.. فالرسامات الكنسية ليست قسرية بل ارادية.
اخشى ما اخشاه..
كانسان يعيش ويدرك ضعف الطبيعة البشرية اسمحوا لي ان اعبر عن خشيتي في هذه اللحظة التاريخية ليس لعدم ثقتي باباء المجمع المقدس، حاشا، بل كابن بار لهذه الام المقدسة، كنيسة المشرق، وحريص عليها من اية لحظة ضعف بشري تعيش في اعماق كل انسان فينا. انها الخشية التي تولد من رحم الحرص والمحبة.
حيث ارى ايضا ان المشهد الانتخابي اعلاه يختلف في نصفه الثاني من حيث عدم الاستعداد لتحمل الاعباء والهروب من الاستحقاق التاريخي في لحظة مصيرية للكنيسة وشعبها واللجوء الى بدائل مهما تمكنت ومهما توفر لها فانها تبقى بدائل عن الخيار وليست الخيار، بل وربما اللجوء للانتقال من البديل الى ملء الفراغ الذي لا يتوقف عند بقاء الستاتيكو والجمود القائم بل يعني المزيد من الاحباط بين المؤمنين والاكليروس، والمزيد من الهشاشة في الاداء المؤسساتي والتكامل والانسجام بين الابرشيات ورعاتها. ان ملء الفراغ هو بحد ذاته قفز في الفراغ.
ليس موضوعنا محاججة تبريرات الهروب ومحاججة الانتقال من الخيار الى ملء الفراغ فتلك نتركها للقادمات من الايام، ولكن نكتفي بالقول بانه مهما كانت فانها لا تبرر عدم قبول الاستحقاق البطريركي في لحظة ومرحلة تاريخية حرجة تكاد تكون مفترق الطرق بين ان نكون او لا نكون.
نصلي الى الرب الذي منح البطريرك الراحل الثقة لتقبل الدرجة البطريركية الثقيلة فلم يهرب منها بل وتحملها وكان خير من فعل، ان يمنحها اليوم لمن هو خيار الكنيسة وشعبها ليقتدي بذات الفعل.
للممارسة الانانية تعبيران فاما السعي لنيل مرتبة يدرك الشخص في اعماقه انه ليس اهلا لها وليس بمستوى مهامها.. او التهرب من تحمل مسؤولية يدرك الشخص في اعماقه انه الاجدر بها ولكنه يتفاداها تهربا منها او حفاظا على وضع يعيشه.. اخشى ما اخشاه ان يتلاقى التعبيران في الاختيار البطريركي.
اخشى ما اخشاه انه وبعد عقود وسنوات من الجهد المبني على رؤية مسيحية وقومية لجلب الكنيسة من هامش المشهد الكنسي المسكوني الى وسطه نتجه اليوم الى التخلي عن هذه الرؤية بل ومناقضتها.
اخشى ما اخشاه انه وبعد العمل الدؤوب والمثمر لتقريب وتوحيد ابناء شعبنا وتحريره من الحرب الاهلية، حرب التسمية، لا نمانع اليوم في اللحظة التاريخية والمفصلية ان تتحول الكنيسة الى كتيبة قتالية في حرب التسمية الضروس.
قد تكون خشيتي مبالغ فيها في مرحلة الانتخاب وما بعده.. ولكني ومن منطلق ثقتي باباء الكنيسة وابناءها اريد ان اكون شديد الصراحة والتي قلنا عنها في عنوان المقال بانها مؤلمة.. واني اعتذر سلفا عنها واتمنى واصلي وادعوكم لمشاركتي الصلاة بان اكون مخطئا فيها.
اصلي انا العبد الخاطئ من اجل الكنيسة وشعبها.. واتضرع واتوسل الى حكمة اباءها..
الخوري عمانوئيل يوخنا
1 حزيران 2015